تلتهمونه عند غلاء اللحم وتركبونه عند غلاء البنزين
فلنستبدل سؤال، كيف نأكل اللحوم في هذا الغلاء الفاحش بسؤال: أي لحوم نأكل أو قد نأكل؟ بهمسٍ سرت “خبرية”: أحد تجار المواشي في عكار يخلط مع لحم الغنم والبقر لحم الحمير ولحم ماشية نافقة “فطيس”. فلنبحث عن أصل الخبر قبل السؤال عن مفعوله.
الكلام في الموضوع مقزز، فليس سهلاً أن نتلمس الفم واللسان، مستذكرين آخر مذاق لآخر وجبة لحوم تناولناها، وفي البال سؤال: هل “أكلنا الضرب” في ما أكلناه؟ لا يختلف إثنان أننا في بلد مفتوح على كل شيء، لكن هناك دائماً ما نظنه مستحيلاً الى أن يتأكد العكس. فماذا في التفاصيل؟ بلا مقدمات طرحنا السؤال على نقيب اتحاد القصابين وتجار المواشي عمر بكداش: هل يأكل اللبنانيون لحم الحمير؟ فردّ: “أعوذ بالله أعوذ بالله” واعتذر عن متابعة الحديث لأنه في السيارة. عدد من تجار المواشي من القبيات وعكار العتيقة وعندقت وعيدمون والبقاع والهرمل ردوا “الجواب” الى معلومات وردت إليهم بالتواتر، سمعوها من بعيد، ولم يتحققوا منها. هل نحذف الخبر وندرجه في خانة “القيل والقال” وننساه؟ راجعنا من جديد تجار مواش في القبيات ووعدوا بأن يتابعوا الموضوع ولكن، هناك شيء آخر أكد عليه الجميع وهو أن في السوق المحلي كميات من لحوم المواشي الفطيس. مواش بيعت بعد ان نفقت بأسعار متدنية سلخت واُعدّت للبيع في الملاحم، وهناك مواش مريضة، تموت، فتذبح وتباع أرخص من أسعارها الطبيعية، بغض النظر عن نوع المرض المصابة به أو أنواع الأدوية التي أعطيت لها.
لكن، ألم يكن يحصل هذا من قبل؟ هل تناول اللحوم من ماشية كانت مريضة أو فطيساً أمر جديد؟ يجيب تاجر مواشٍ في القبيات: “ما حدث ان طبيعة الطلب على اللحوم، بعد ارتفاع اسعارها الجنوني، تغيّر، ومربو المواشي ما عادوا قادرين على تدليل أبقارهم وأغنامهم بتقديم أجود انواع العلف لها، كما أن أسعار الأدوية ارتفع… أمور كثيرة تبدلت بين الأمس واليوم في سوق يُشكل أحد أعمدة الأمن الغذائي. فلندخل اكثر في التفاصيل. نصغي الى صاحب أحد المواشي يطلب نصيحة سريعة “عندي هالمعزاية”، “مشيانة معدتها” (عندها إسهال) أعطيتها إبرتين وشربتها شاي تقيل ونشاء ولم ينفع. في حدا يفيدني بشي دوا أو طريقة مجربة؟”. وهبطت النصائح من نوع “أعطها إبرة كورتيزون. قدم لها تبناً بلا شعير. أعطها دواء للإلتهاب. أعطها فلاجيل الصبح والمساء. أعطها دواء “سلفاميسين” موجود في صيدلية الدكتور خزعل في زحلة… وأعطها وأعطها… ويأتي الحلّ: إذبحها وبعها قبل ان تنحف وتخسر لحمها”.
ماذا عن كواليس هذا السوق اليوم؟ يجيب تاجر مواشٍ في عكار: “هناك “بازار” للمواشي في حلبا كل إثنين وأربعاء وجمعة، يباع فيه الخروف “واقفاً” بين 33 ألفاً و35 ألفاً للكيلوغرام الواحد، بمعنى أن الخروف الذي يزن 50 كيلوغراماً لا يصمد منه، بعد نزع عظامه وأقدامه وجلده، إلا 21 كيلوغراماً، وبالتالي يقف الكيلوغرام الواحد على التاجر بثمانين ألفاً. أما بالنسبة الى العجل الذي يزن 400 كيلوغرام، فنشتري الكيلو منه “واقفاً” بعشرين ألفاً، يعني 400 ضرب 20 يساوي ثمانية ملايين ليرة. وفي كل مئة كيلوغرام نحصل على 40 الى 45 كيلوغراماً من اللحوم تقريباً يعني من أصل 400 كيلو يبقى لنا 160 كيلو من اللحم تقريباً، ويفترض بنا أن نبيع الكيلو الواحد بسعر لا يقل عن 49 الى 50 ألفاً كي نسترد الرأسمال. فكيف يظهر من يبيع “اللحم الطازج” بأربعين ألفاً؟ هذا كذب فاضح!
ينزل التجار الى سوق المواشي في حلبا فلا يجدون إلا 50 رأساً بعدما كان هناك أكثر من 500. السوق انقلب، مثله مثل كل شيء في لبنان، “فوقاني تحتاني”. والتجار باتوا يفضلون الإبقاء على الأغنام أحياء لديهم بدل ذبحها وبيعها بالرسمال. يعيش الغنم نحو ما بين 7 إلى 11 سنة أما الأبقار فتعيش اكثر من 14 عاماً وهي تلد كل سنتين، ومدة حملها ستة أشهر… يحسب التجار الربح والخسارة ويخرجون بثابتة: الإبقاء على الأغنام والأبقار لديهم أفضل من بيعها!
نسأل تاجر مواش عن “خبرية” بيع لحوم الحمير فيجيب: “لم يبع أو لم يشترِ أحد، عندنا في القبيات، لحم الحمير. سمعت عن هذه التجارة في مصر وفي سوريا وربما في (…) لكن ليس في القبيات. لكنه يستطرد بمعلومة: “سعر الحمار هنا ارتفع كثيراً. كان يباع بخمسمئة ألف ليرة فأصبح بثلاثة ملايين، (تبعاً لسعر صرف الدولار).
الغلاء في أشده حتى بما خص سعر الحمار في لبنان. نستعيد هنا زقزقة قديمة لوئام وهاب (في 21 تموز 2018)، قال فيها: “حمار هربان من لبنان، إذا غلي اللحم بتاكلوني وإذا غلي البنزين بتركبوني”.
نسمع كثيراً عن اللحم المبرد المسحوب الهواء منه (الفاكيوم) واللحم المثلج. وأصحاب الملاحم يأكلون منه، لأنه أرخص من أن يذبحوا هم، لكن أن يباع على أنه طازج بلدي فهذه مصيبة أخرى. وهنا، يصرّ تجار المواشي على التمييز بين هذين الصنفين المستوردين وبين اللحوم الطازجة. فإذا ذهبتم الى الملحمة مثلاً قد تجدون فخذاً، هو كناية عن قدم البقرة مع فخذها، مجروماً معلقاً بلا عظام ويقول لكم اللحام “هذا بلدي”. لا تصدقوا. هذا برازيلي. وإذا أردتم أن تتناولوا البلدي فلن تجدوه حتماً بأربعين ألفاً ولا تصدقوا أن الفخذ المعلق بلدي.
90 في المئة من الأغنام في لبنان آتية، تهريباً، عبر سوريا، خصوصاً “أبو لية”. لكن، على ما يبدو خف كثيراً التهريب من هناك بعد قانون “قيصر”، كما أن سوريا باتت تفضل ارسال مواشيها في اتجاه الأردن والعراق وتركيا. فهي قد تحصل على “الدولار” من هناك اما لبنان فبات “جلدة وعضمة”.
هل يتناول اللبنانيون لحم الحمير؟
يسرح الراعي أحمد في الحقول وراء الغنمات وهو سبق وأنذر رفاقه “إنتبهوا من نوعية اللحوم التي تتناولونها”. هو قال لهم أن هناك من يبيع لحم الحمير لكنه تراجع حين عرف ان ما قال أصبح “للنشر”. فهل خاف؟ يجيب: “ما يحصل ان العجول المريضة تباع قبل ان تموت، بغض النظر عن المرض او نوعية الإبر التي أخذتها في الدم. ونحن في موسم تكثر فيه الأمراض بسبب تقلبات الطقس، كما أن الحرّ الشديد يتسبب بأمراض جمة. لذا نصحت من أعرف بعدم التهافت على الملاحم التي تبيع بأسعار متدنية، لأن الماشية المذبوحة إما تكون كبيرة أو مريضة. ويستطرد: لست متأكداً من بيع لحوم الحمير لكني أجزم أن التجار يبيعون الماشية الشديدة المرض أو الميتة. وأكثر ما تباع الى المخيمات”.
تاجر اللحوم في القبيات يؤكد هذه النقطة “يأتي البيك آب ليلاً ويأخذ الماشية الميتة ويذهب بها الى مخيمي نهر البارد والبداوي حيث يجرمونها ويبيعون بعضها “بالمفرق” خارج المخيمات. ويقول: “اعتاد الناس على هذا النوع من اللحوم و”لو بدن يتأذوا كان مات نص العالم”. أكثر الأمراض التي تصيب الأبقار هي التهاب الروايا أو تلتهب ضرتها، أي المحلب. ويمكن تمييز البقرة التي نفقت قبل الذبح بأن اليدين والقدمين تكونان “مكربجين”، أما لجهة لون اللحم فلا يختلف. والسواد الذي نراه أحياناً على اللحم مرده صقوعة البراد التي تحرق اللحم أو ضربة السكين على اللحم.
سعر البقرة الحلوب، إبنة السنتين، 15 مليون ليرة. وتعطي عادة نحو 80 ليتراً من الحليب. ويباع سطل الحليب، خمسة ليترات، في عكار بعشرة آلاف ليرة. ويستطرد تاجر اللحوم “لحم العجل أطيب من لحم البقر، كونه خالياً من أي “زنخة”، ولحم البقرة التي لم يسبق أن أنجبت أطيب من لحم البقرة التي أنجبت. وكلما كانت البقرة أصغر عمراً كان لحمها أكثر طراوة، أما التي زاد وزنها عن مئة كيلوغرام يكون لحمها يصلح للفرم لا للشيّ. ويحرص التاجر على إثارة قصة اللحم المدعوم معتبراً أن “الدولة اعطت التجار الكبار المستوردين على سعر 2,4 سنت لكل كيلوغرام، وفق السعر المدعوم، لكنهم عملوا على سبيل المثال الى بيع 10 أبقار وفق هذا السعر الى عشرة لحامين واحتفظوا بالباقي ليبيعوه على سعر السوق السوداء. ولا مين شاف ولا مين دري. هناك سرقات كبيرة تحصل تحت عين الشمس في قطاع اللحوم في لبنان”.
تجار المواشي يصرخون. اللحامون يتذمرون، والمواطنون يأكلون الضرب تلو الضرب. فلنصغِ أكثر الى أحد تجار المواشي: “القوانص التي نادراً ما كان يطلبها مستهلك باتت تفرم اليوم وتباع مع الكفتة. الغش كبير. وبعض اللحامين يخلطون المثلج مع البلدي ليتمكنوا من بيع الكيلوغرام بسعر أقل. فيضعون نصف بلدي مع نصف مثلج، أو ثلاثة أرباع مع ربع. المهم أن يتمكنوا من تخفيض السعر قليلاً ليبيعوا أكثر. ويستطرد: هناك ملاحم تطحن الخنزير مع البقر”. هل يجب أن نسأل مجدداً عن لحم الحمير؟ لا إثباتات حتى اللحظة بخلط هذا النوع من اللحوم مع سواه غير أن هناك من يقول أن وجود الحمار أصبح نادراً في مناطق ريفية كثيرة.
ثقافة تناول الحمير موجودة في بلاد كثيرة، مثلها مثل ثقافة تناول لحم الكلاب في الصين وكمبوديا وسواهما… ولكن، أتتصورون أننا، في ذهابنا شرقاً، قد نضطر الى تناولها؟ هناك من يردد في هذه اللحظات ان لا شيء مستحيل.
قبل أن نختم نتذكر تلك العبارة التي وردت في كتاب صدر زمن الحرب عن مؤسسة الشيخ محمد سرور زين العابدين، عن البعث والجوع والحرب والوحدة مع شاه ايران ونظام الاسد وفيها “ان اجتماعاً جماهيرياً عقد في مسجد مخيم برج البراجنة وقرر الاهالي أكل لحم القطط والكلاب والحمير إن وجدت، ووجهوا برقيات الى شيوخ السنة والشيعة والدروز يطلبون منهم إصدار فتوى رسمية وعلنية بهذا الشأن”! وماذا بعد؟ نحن في أتون النار والقادم، كما يقال، أعظم، والحمير قد تصبح، (إذا صدق من قالوا أنهم ما زالوا في أمان)، حلاً في زمن الجوع!