يستذكر الكبار في إحدى بلدات عكار الساحلية أنّه منذ قرابة الأربعين عاماً كان في البلدة لحّام يلقب بـ«الجـَلْحَة»، وكان فقير الحال، إلى أن بدأ حاله يتغيّر مع «اكتشافه» منجماً للمال، من خلال شرائه للحمير من مجموعات «النَّوّر» المتواجدين على مقربة من شاطئ العبدة، فكان يأتي بالحمار بعمر السنة ويذبحه ويسلخه قبل طلوع الفجر، ويواري جلده وبقاياه.. وهكذا سطع نجم «الجلحة» وبقي يطعم أهل ببنين والجوار «أطيب» المشاوي من لحوم الحمير أكثر من خمس سنوات، إلى أن دبّ الخلاف بينه وبين زوجته، فقامت بإفشاء سرّه لقوى الأمن الداخلي، وكشفت الحفرة التي كان يطمر فيها رؤوس الحمير، ليكتشف أهالي البلدة «خدعة عمرهم»، ويحال «الجلحة» إلى القضاء ويمكث في السجن بضع سنين مع دفع غرامة مالية كبيرة.
ad
مع استحضار هذه المحطة «التاريخية» نكمل حديث شاهد العيان شيخ العشيرة السوري إلى «اللواء» حول تفاصيل عمليات تهريب لحوم الحمير إلى لبنان، فيوضح أنّ المهرِّبين أقاموا نقطة للذبح والتقطيع عند النهر الجنوبي الكبير على الحدود اللبنانية السورية، حيث أقاموا مسلخاً بدائياً، يجري فيه ذبح الحمير وسلخها وتقطيعها وتوضيبها في سيارات (فان) تأخذ طريقها إلى لبنان على شكل «لحم مجروم».
يقوم القسم اللبناني من المافيا باستكمال المهمة، فيتولى إدخال اللحوم إلى السوق مستغلاً حالة الفوضى والجشع القائمة. فتبدأ الرحلة من العبدة وتقوم بالتوزيع في ببنين وجوارها، وصولاً إلى حلبا، وتكمل غرباً نحو أسواق طرابلس الشعبية، وإلى مخيم صبرا ومخيمات أخرى اعتاد اللبنانيون أن يقصدوها نظراً للأسعار المنخفضة فيها، وليس انتهاءً بمدينة صيدا ومخيماتها.
الملاحم والمطاعم زبائن مافيا لحم الحمير
تتحرك مافيا تهريب لحم الحمير نحو التجّار والملاحم وتعرض عليهم أسعاراً تصل إلى الخمسة وعشرين الف ليرة كسعر استلام، وهي تصل مُحمّلة بـ«الفانات» إلى الملاحم والمحلات، على شكل لحم «مجروم» أو «هبرة».
تزوِّد هذه العصابة المطاعم اللبنانية في الشمال وبقية المناطق بلحوم الحمير، من دون أن يكون أصحابها على علم بحقيقتها بالضرورة، فهي لا تكشف عن الغش الحاصل، لكنّ السعر يغري، فضلاً عن أنّه لا يخطر على بالهم أن يكون ما يستلمونه لحم حمير، وهم يظنون (وبعض الظنّ إثم)، أنّ ما يستلمونه لحم عجول مهرّب من سوريا، باعتبار أنّ السوريين يفضلون لحم الغنم على لحم البقر، فضلاً عن أنّ السوق السوداء للّحوم بين لبنان وسوريا قائمة منذ زمن طويل ويعلم الجميع أنّ معظم المطاعم تعتمدها في تأمين ما يلزمها من لحوم.
الجديد الآن، أن هذه السوق السوداء، أصبحت مخترقة بلحوم الحمير، والأرجح أنّه لم يبق لبناني لم يتذوّق هذه اللحوم نظراً لتفشّيها في أغلب الأسواق اللبنانية المستباحة بالفوضى وغياب أجهزة الرقابة وشبه انعدام الفحص المخبري.
الانفلات في المعابر والأسواق
يشرح شيخ العشيرة السوري (شاهد العيان) أنّ عمليات تهريب لحم الحمير تعود زمنياً إلى بدايات التدهور في لبنان وبدء الارتفاع الجنوني للأسعار، وقبل وصول جائحة كورونا، وتزايدات مع تفاقم الأوضاع، لتصل ذروتها في شهر رمضان الماضي، في استغلال واضح لتعطّش السوق إلى اللحوم.
على المستوى اللبناني أكّد عدد من التجار أنّ الانفلات والفوضى يسيطران على الأسواق وأنّ الحدود سائبة والمعابر غير الشرعية التي يتجاوز عددها 18 معبراً موازياً للداخل اللبناني في عكار، يتدفّق منها كلّ شيء، وأنّ عمليات تهريب لحوم الحمير ليست جديدة، لكنها لم تكن بهذا الحجم الذي بات يشكل ظاهرة خطرة على الأمن الصحي والاجتماعي.
وللتذكير، فإنّ قوى الأمن الداخلي قامت بتاريخ 24 تشرين الثاني 2014 بإغلاق إحدى الملاحم عند دوار نهر أبو علي للاشتباه بأنّ صاحبها يبيع لحم الحمير، وفي الآونة الأخيرة حامت الشبهات حول إحدى الملاحم في بلدة المحمرة العكارية، كما أثار الجزء الأول من هذا التحقيق انتباه المواطنين في الضنية إلى وجود ملاحم منخرطة في تجارة اللحوم المشبوهة.
حلول جزئية من وحي الأزمة
من الطبيعي أن ينتظر المواطنون تحرّك وزارة الاقتصاد وأجهزة الدولة المختصة، لكنّ من الواقعي أيضاً الإقرار بأنّه لا ينتظر من مراكز السلطة شيء، وهي المسؤولة عن هذا الانهيار.
لذلك، يتساءل اللبنانيون: كيف يمكن حلّ هذه المعضلة: الجواب ليس سهلاً طبعاً، والاستناد إلى السعر المنخفض وحده لا يكفي، فربما تُمَكِّن ظروف السوق هذه المافيات من بيع لحم الحمير بأعلى الأسعار ضمن حيل الالتفاف على القانون وعلى وعي الناس، الذين يجب عليهم الضغط، من خلال المرجعيات الاقتصادية وهيئات المجتمع المدني، لاعتماد ملاحم ومراكز توزيع تحظى بشهادات فحص من مختبرات معتمدة، وهذا الحل متوفر شمالاً، بشكل خاص بوجود مختبرات غرفة التجارة والصناعة والزراعة في طرابلس والشمال.
ربما تكون هناك وسائل أخرى على اللبنانيين البحث عنها لتأمين أمنهم الصحي، من خلال التكافل الاجتماعي، ومن خلال جهود المجتمع الاقتصادي، لكن بالتأكيد ليس منها الاتكال على الدولة وأجهزتها، فوزارة الصحة ينشغل وزيرها حمد حسن بالاستعراضات والمداهمات الكيدية، ووزير الاقتصاد راوول نعمة مهتم بدفن جريمة تفجير مرفأ بيروت، من خلال كتابه الشهير إلى المحقق العدلي القاضي طارق بيطار، بواسطة وزيرة العدل ماري كلود نجم، يطلب فيه «إصدار تقرير رسمي يُخرج الأعمال الحربية والإرهابية من دائرة الأسباب التي أدت إلى وقوع الانفجار.
على كلّ حال، لا بدّ هنا من لازمة شكلية على الأقل، وهي مطالبة وزارتي الصحة والاقتصاد وجمعية حماية المستهلك، وأجهزة الرقابة الصحية في البلديات، من التحرك لحماية اللبنانيين من أن يتلقّوا المزيد من الكوارث، ومن أكل.. لحم الحمير!
لحوم الحمير بـ«نكهة الممانعة»
رغم أنّ الغش ليس له انتماءٌ سياسي نظرياً، إلاّ أنّ مافيا تهريب لحوم الحمير تعمل تحت عيني النظام السوري الذي يُسَهِّلُ لها الحركة، وتـُعاوِنُها في لبنان شبكة من المهربين الذين يدورون في فلك الممانعة، ويتمتعون بحصانتها، وكثيرون ممن يذبحون الحمير اليوم، سبق أن ذبحوا البشر في العدوان على الشعب السوري، ومع سيطرة العصابة الحاكمة على البلد وتسبّبها بفتح أبواب المجاعة، لن يكون تهريب لحوم الحمير وإطعامها للبنانيين، سوى تفصيل صغير في سلسلة الإجرام التي يرتكبها التحالف الحاكم.