Site icon IMLebanon

دوري يتذكّر داني: كنّا كلنا عسكر

 

يرفرف علمٌ لبناني كبير فوق المبنى، قبالة كنيسة مار انطونيوس الكبير، حيث أقيم الأسبوع الماضي قداس لراحة نفس داني شمعون وزوجته إنغريد وطفليهما طارق وجوليان، في الذكرى السابعة والعشرين لاغتيالهم. من الخارج يبدو حزب الوطنيين الأحرار، للناظر إلى مركزه في السوديكو، في حالة إنعاش. لكن الحزبيين داخله يحاولون الاستمرار عبر اجتماع لمجلس الأمناء. بينهم سيّدتان وأمينان من غير الطائفة المسيحية. صور داني وعائلته معلّقة في مكان الاجتماع أيضاً

إلى الباب الجانبي لمركز «الوطنيين الأحرار» في السوديكو، يجلس رجال ثلاثة يلعبون الطاولة. لا حراسة ولا «نمور». في الطابق العلوي بهوٌ فسيح، طاولة بيضاوية واسعة، وصورة للرئيس الثاني للجمهورية بعد الاستقلال. يقف رئيس الحزب النائب دوري شمعون، رغم سنواته الست والثمانين، ليصافح الضيوف. يدعوهم إلى مكتبه الخاص. هنا نجد وثيقة تأسيس الجمعية المسمّاة «الوطنيين الأحرار»، ودروعاً وصوراً تذكارية كثيرة. أما الصورة الأكبر، فرسم كبير للنمر خلف المكتب الخشبي العتيق الذي كان يستعمله بنفسه.

 

يغلب اللون الأبيض على ردهات المبنى الأول الذي استأجره «الأحرار» لمزاولة نشاطه بعد حوادث 1958. الأبيض هنا يشيع في النفس الهدوء، لكنّه لا يقوى على طمس ويلات الحرب. صوتُ دوري هادئ أيضاً، وهو يقيّم حزبه، متذكّراً شقيقه داني بعد 27 عاماً على اغتياله.

 

المباراة الأخيرة بين الشقيقين

 

كان وَلدا الرئيس كميل شمعون، دوري وداني، مثل أي شقيقين: «نختلف على أمور كثيرة، نتبارز في كرة المضرب، وكنا متعادلين»، في كرة المضرب طبعاً. «الماتش» الأخير الذي لعباه، كما يتذكر دوري، «كان في اليرزة. أوقفنا اللعب حين أنهكنا، عند 13 all وكان القصف يشتد». لا خلاف في طباع الشقيقين: «كنا كلّنا عسكر». من الأكثر تشدّداً؟ يجيب دوري بصراحة: «سياسياً كنت أنا الراديكالي، كنت يسارياً، وفي عمر الـ18 كنت أريد دخول الحزب الشيوعي، وبعدها تعرّفت بفتاة جميلة ونسيت الشيوعية». من جانبه «لم يتعاطَ داني السياسة قبل المعارك.

يفهم بالسلاح وكانت هوايته. كانت تلازمنا بارودة الصيد في العائلة. أحد أعمام والدي، واسمه شاكر، ينادينا، داني وأنا، إلى حديقة المنزل ويعطينا «الأم خردقة» ناصباً علامات من علب السردين الفارغة ويطالبنا بالتسديد إليها».

مكانة كميل والكاريزما التي تُعرف عنه تبقى حاضرة في ملامح دوري، حتى وهو يتحدث عن داني. وقع رحيل الأب يختلف عن اغتيال «قائد النمور» الشقيق: «كميل لم يكن رجلاً عادياً، لا تمكن مقارنته بأحد، حالة خاصة. يحترم الناس. بقي في الـ87 من عمره يقف ليستقبل الناس». لكن الوحشية التي اغتيل بها داني وعائلته «تدعو للكفر». ماذا عن تبرئته سمير جعجع؟ نسأله، «أنا درست الحقوق، ليس محبة بجعجع رغم مآخذي حينها عليه لكنه حوكم بعد فترة من اغتيال داني، عندما لم تنجح فبركة قضية الكنيسة، أخرجوا ملف داني. المسألة ليست في اقتراف الجريمة أو عدمه، إنما في محاكمة جعجع غير القانونية، من قبل السوريين والشعبة الثانية بوجود احتلال ودولة لا تحترم الإنسان ولا القانون. كانت تركيبة للإيقاع به، والتفتيش عن المذنب ليس من مسؤوليتي». ما يتذكره دوري هو الجريمة وحسب.

«ما في شي ينحكى» عن الشهر الذي تسلم فيه دوري «كتيبة النمور» من شقيقه داني، بين تموز وآب 1980. رغم ذلك، يتذكر دوري. يومذاك وقعت مجزرة الصفرا (ارتكبتها القوات المسلحة التابعة لحزب الكتائب، بقيادة بشير الجميل) وذهب ضحيتها نحو 500 من المدنيين ومن مقاتلي «الأحرار». حلّ كميل الأب الفصيل المسلّح لتوفير التشقق في صفوف «المقاومة المسيحية» ولتكون «بقيادة بشير الجميل». يؤكد دوري أن «داني لم يرفض، بل بقي الرقم اثنين في المعادلة بعد بشير. شباب كثر منا التحقوا بالقوات». أريقت دماء كثيرة. يومذاك كان دوري في السان جورج بالكسليك: «أجرّب إحدى السفن من صناعتي وتصميمي. نادوني على الجهاز وأعلموني بهجوم الكتائب على مراكزنا. نسينا الشختور على حاله وأتينا لتهدئة الوضع». خاف كميل شمعون من تمدّد ذيول المذبحة وضغط على فرامل التهدئة. أما داني، «فكان في جبهة فقرا من الصباح الباكر، تدخل أمين الجميل، ونقله بواسطة مروحية تابعة للجيش إلى بعبدا وجاء إلى منزلي».

 

المصالحة مع ترايسي

 

كثيرون غادروا «الوطنيين الأحرار». وصورة الحزب تغيّرت ومرّت بمراحل كثيرة. يرفض دوري هذا ويعتبره تعميماً: «الأحرار موجود على الأراضي اللبنانية ومن الطوائف كافة»، برأي رئيس الحزب المتفائل بمن «بقوا على المبادئ». «من ولد شمعونياً لا يزال»، يقول. والأحرار حزب عرف الصعود والهبوط والمراوحة. الإمكانات ضئيلة، المراكز لم تكن مملوكة، بقاؤها من دون نشاط غير منطقي: «بتدفع إيجار على الفاضي». يحاول الحزب استنهاض نشاطه بالتمويل الذاتي للحزبيين. لكن الوهج خفّ لصالح أحزاب مسيحيّة أخرى. قام «الحزب في الأساس على مال الجيب للرئيس كميل شمعون»، أما مساعدات عدد من الدول فكانت «فقط أيام الحرب، لم تكن ماديّة بل بالسلاح لخوض المعارك». لا ينكر دوري أن «البعض راحوا» ولجأوا إلى غير أحزاب. بعضهم ذهب إلى الرئيس ميشال عون: «مستعد أعملّو هنّي أمبالاج كادو»، يقول ممازحاً. يشير إلى صورة شمعون الأب: «من يفقدون الأخلاق والوفاء والروح الوطنية لا يمكنهم البقاء في مدرسة هذا الرجل. وفّروا علي مرسوم الطرد». نخبره أن ترايسي، ابنة شقيقه داني، ذهبت بدورها (عيّنها رئيس الجمهورية ميشال عون سفيرة في الأردن قبل أسابيع)، فيعلّق بفتور: «يشملها قانون العفو، باركت للتيار الوطني الحرّ بالسفيرة السيدة لديه».

 

«سلّمنا داني وصار لي صار»

 

يفاخر الرئيس الحالي للحزب بأنه من المؤسّسين الأوائل. ويشير إلى فكرة مجهولة لكثيرين: «كانت فكرتي، طرحتها على كميل شمعون وأسّسنا لجنة لوضع المبادئ والتنظيم». يعتقد كثيرون أن داني كان حزبياً أكثر من دوري، وأن صورته تطغى على «الجناح العسكري» في الحزب خلال الحرب، وهو ما يجيب عليه دوري بالتذكير: «في الحرب كلنا كنّا عسكر». وبالعودة إلى تأسيس الحزب، أي قبله وقبل داني، يشير إلى الترخيص المعلّق على الحائط «شوفي مين وقّعه، مين هني». نقرأ: جورج عقل، رضا وحيد، محمد الفضل، هنري طرابلسي، جان حرب، شفيق ناصيف، محمود عمار، قبلان عيسى الخوري. بقي أولئك أوفياء للحزب ومشوا الطريق نفسه لكن «الظروف لم تسمح لهم إبان الحرب». العلاقات الشخصيّة بقيت إلى أن عادت الأوضاع إلى طبيعتها وأعيد الربط بين المناطق. «حتى أيام الحوادث كنا نزمط لنشوف بعض». الوجود السوري والحرب فرّقا بين الحزبيين. في بعض المناطق «اضطررنا للابتعاد عن مناصرينا كي لا نسبّب لهم مشاكل في ظل الحاكم بأمره».

يبدو واضحاً تأثّر ابن الرئيس بوالدته. ربما كان لذلك أثر في سياساته اللاحقة. «بشوف المشهد بعيون زلفا، علّمتنا وربّتنا على تمييز الجيّد، أنظر بعينيها فأجد المشهد تعيساً. مجبرٌ أن أراقب من خلال عينيها. لكن داني كان مثل والده، يحبّ السياسة». داني ليس موجوداً اليوم لكي يقيّم، لكن دوري يقول بصراحة: «لا يوجد ما يشرّف في ما وصلنا إليه». الصحة جيّدة وثمة جيل من الشباب ينتسب إلى الحزب. «أنا دائماً هنا وبابي مفتوح». يعتبر نفسه «متسامحاً» اليوم… «لأنني مسيحي مؤمن». أُجبِر على السياسة ولكنه لا يحبها، على عكس شقيقه. قد يكون السبب في مكان آخر: «لا أحب السياسة، كانت دين كميل ومعبودته وتجري بدمه. أول مرة هربت من السياسة وسلّمنا داني، صار اللي صار».