Site icon IMLebanon

كيماوي دوما إذ يشيع مناخ مواجهة دولية

      

غداة الغارة الكيماوية التي شنّها نظام بشار الأسد على دُوما لم يتوقّف النقاش الدولي عند مصير المدينة وأهلها، لأن إنقاذهم فشل منذ تُرك الروس والإيرانيون والنظام ليتجاهلوا قراراً دولياً بوقف إطلاق النار. لم يكن «إنقاذ» الغوطة الشرقية وأهلها الهمّ الرئيسي للأطراف الخارجية على رغم أنها خاضت معركتها الديبلوماسية باسم «حماية المدنيين»، بل محاولة إثبات أن الضغط الدولي لا يزال قادراً على فرملة جنوح روسيا وحلفائها نحو الاستفراد بسورية وفرض إرادتها وحلولها على مستقبلها. ومع انحسام المعركة عسكرياً وتفكيك الغوطة قطعةً قطعةً، بتهجير السكان والمقاتلين، لم يكن متوقّعاً أن تُمنح دُوما وحدها وضعاً «تصالحياً» خاصاً، لكن المدافعين عن المدينة راهنوا على مرونة خادعة أبداها المفاوضون الروس، وحاولوا إقناع هؤلاء بأن أي صيغة تحافظ على السكان في موطنهم مفيدة لروسيا لتبرهن اختلافها عن الإيرانيين والنظام المهووسين بالتهجير تحقيقاً لتغيير ديموغرافي جذري في المنطقة.

كان ذلك أجمل من أن يُصدّق، فكل التجارب التي سبقت الاحتلال الروسي طُبّقت بعده وبمساهمته التي اتسمت أخيراً بالمباشرة على الأرض في الغوطة. لم يفكّر الروس يوماً خارج العلبة الإيرانية – الأسدية ولم يبلوروا أي ضمانات للسكان بعد اجتياح أرضهم وبيوتهم، ولم يشاؤوا أن يفهموا أن الفصائل المقاتلة نشأت أساساً بعدما ارتسم الخيار بين أن يُقَتَّل الناس على أيدي النظام وميليشياته أو يُقتّلوا فيما يحاول أبناؤهم الدفاع عنهم، بالتالي فإن قتل الأبناء أو إجبارهم على الانسحاب يعني رفع أي نوع من الحماية للمدنيين وجعل مناطقهم حقولَ موتٍ وإذلالٍ تصول فيها جرائم الأسديين والإيرانيين بلا حسيب أو رقيب. كل ما فكّر فيه الروس هو استعادة السيطرة، كما يفهمونها وكما يريدها حلفاؤهم، أي بجعل المناطق أرضاً محروقة أو مهجورة تماماً، وفرض حال اللاأمن واللاأمان لإجبار السكان على الخروج منها مجرّدين حتى من «حقّ العودة» إليها.

لماذا استُخدم السلاح الكيماوي طالما أن الروس كانوا في تفاوض لم ينقطع مع فصيل «جيش الإسلام»، وطالما أن هذا الفصيل أقرّ بالهزيمة وأراد فقط تأمين وضع يُبقي السكان في المدينة؟ لم يرغب الروس أصلاً في توفير ضمانات وفاوضوا فقط لإنهاء الوضع القتالي غير مبالين بما بعده، ثم إن وجودهم الرمزي على الأرض يحول دون تنفيذ أي ضمانات حتى لو كانت محدودة وبموافقة النظام، بدليل ما حصل في المدن والبلدات والمزارع التي استعيدت وشنّت عليها ميليشيات «قوات النظام» غزوات نهب و «تعفيش» موثّقة بكاميرات الضباط من دون أن يقلقها وجود مراقبين روس أو «شرطة روسية». لذلك، كان الهدف من القصف بالغازات السامة كسر ثبات مفاوضي دُوما وتحميلهم مسؤولية الموت الجماعي لمواطنيهم.

كان هذا السلاح حاسماً في تحقيق ذلك الهدف، ويمثّل استخدامه القرار الأول والجريمة الأولى لفلاديمير بوتين في ولايته الرابعة، بل التحدّي الأول بوضعه الولايات المتحدة وحلفائها في اختبار تهديداتهم بالردّ عليه. لا أحدّ يشكّ في أن الضرب بالكيماوي حصل من دون علمه أو أن نظام الأسد أقدم عليه بدفع من الإيرانيين من دون موافقة روسيا وتحديداً رئيسها. فالأرجح أنه هو مَن أمر بضربة كهذه ليستخدمها في مواجهاته الدولية وليس لأنه مهمومٌ بمعركة الغوطة أو مجريات التفاوض مع دُوما. قبل عام تجاوز بوتين تداعيات الواقعة الكيماوية في خان شيخون وتحدّي القصف الأميركي لمطار الشعيرات، فمن جهته كان يريد إعطاء دونالد ترامب فترة سماح في انتظار ما لديه من سياسات، ومن جهتهم كان الأميركيون يعتقدون بإمكان العمل معه في سورية، وقد اتضح الآن أن ما حافظ عليه الطرفان كان مجرّد وهم، إذ تضاءلت احتمالات التوافق بينهما، ودخل «الصقور» إلى البيت الأبيض، فقذف بوتين بجثث أطفال دُوما إلى المكتب البيضاوي لإحراج مَن فيه والتعرّف إلى ردودهم وخياراتهم.

إذا كان الأميركيون يريدون الردّ على جريمة استخدام السلاح الكيماوي فحسب فإن الأمر لا يقلق بوتين، لأنه يعلم جيداً أن لا موسكو ولا واشنطن تقدمان على أي عمل عسكري احتراماً للقانون الدولي، أو لاعتبارات إنسانية فحسب. وإذا كانت الولايات المتحدة تتهم روسيا بتعطيل مجلس الأمن الدولي ففي إمكان بوتين أن يقول في الأقل أن الدولتين متساويتان في هذا التعطيل، سواء في سورية أو في فلسطين، وتكفي النظرة إلى وقائع الحاضر المحتقن من دون العودة إلى التاريخ الحافل. فهذا الـ «فيتو» الأميركي المسبق ضدّ إدانة القتل الإسرائيلي المتعمّد للفلسطينيين، ثم الـ «فيتو» الآخر ضد التحقيق في جريمة تُنفّذ بناء على قرار رسمي أعلنته حكومة الاحتلال الإسرائيلي مسبقاً بهدف كسر أي مقاومة سلمية وغير مسلّحة. في المقابل، تلاحقت الـ «فيتوات» الروسية لإحباط أي إدانة للنظام السوري على جرائمه متعدّدة أسلوب الوحشية، وقد توّجتها موسكو بعدم الاعتراف بنتائج أي تحقيق أممي وصولاً إلى عرقلة وحتى إلغاء أي تحقيق في استخدام السلاح الكيماوي.

هذه «الفيتوات» وجّهت وتوجّه رسائل بالغة الوضوح بوجوب نسيان شيء اسمه «القانون الإنساني الدولي»، إذ قالت وتقول للسوريين أن استغاثاتهم ونداءاتهم لحمايتهم لم تُلبَّ حين تعرّضوا لعنف النظام وحده وبعدما جاء الإيرانيون والروس يشاركونه البطش والوحشية. قالت أيضاً أن جرائم السلاح الكيماوي وقنابل النابالم والبراميل تُعالج بـ «تسويات» بين الدول من دون معاقبات المجرمين، لأن هذه الدول هي التي تحمي أولئك المجرمين من أي مساءلة أو محاسبة. لذلك، باتت سلبية النظام الدولي ومجلس الأمن أداة لـ «تشريع» جرائم نظام بشار الأسد وتحصينه وأسلحته من أي حظر أو عقوبة… وقالت تلك الرسائل وتقول أيضاً للفلسطينيين أنهم مستثنون من أي حق في حماية دولية ومن أي حق في الدفاع عن أنفسهم أو في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي لأرضهم ووجودهم، لأن نظام بنيامين نتانياهو يتمتّع بـ «شرعية» القوّة المفرطة والقتل… أي أن العنف الاستبدادي في الحالَين السورية والإسرائيلية بات من ثوابت النظام الدولي وتوافقاته.

وحين تقول واشنطن أنها تحمّل روسيا «مسؤولية» سقوط قتلى بقنابل الغاز في دوما، وتدعو المجتمع الدولي إلى التحرّك، فإنها تبلغ موسكو أنها تستطيع أن تتعايش مع استخدام غاز الكلور، فهو مصنَّف «سلاحاً غير فتّاك» ولا يؤدّي إلى موت عشرات بل مئات الضحايا اختناقاً. وحين تردّ موسكو بنفي استخدام النظام السوري الغازات، فإنها تبدو كأنها تطمئن واشنطن إلى أنها والأسد لم يتجاوزا السلاح المتوافق عليه. إذاً، فقد بلغت انتهازية المساومات بين الدول حد التمييز بين قتل وقتل، بين الخنق والفتك، بين موت بالقصف المباشر وموت في الملاجئ تحت ركام الأبنية، ولم تعد مهتمّة بإظهار الفارق اللازم والضروري بين أن ينتصر «عنف الدولة» وأن ينتصر «عنف الإرهاب»، إذ يصرّ بوتين على أنه حارب الإرهاب من أجل أن يعيد الشعب السوري إلى حكم الأسد، ولا يرى مشكلة في إرهاب الأسد ونظامه. أما دونالد ترامب فجعل من القضاء على الارهاب هدفه الأول إلى حدّ تدمير تسعين في المئة من الموصل والرقّة، وبما أنه لا يرى مشكلة في إرهاب إسرائيل فقد تبنّى معظم شروطها لصوغ «صفقة القرن» ومع ذلك لا يزال نظام نتانياهو يرفض أي تسوية تعيد إلى الفلسطينيين بعضاً من حقوقهم، تماماً كما يرفض نظام الأسد أي تسوية تصون للسوريين بعضاً من حقوقهم، فكلاهما يعارض بشدّة «حق العودة» لمن هُجّروا من مواطنهم.

شاركت روسيا النظام للمرّة الأولى في «اتهام» إسرائيل بالإغارة على مطار تيفور قطعاً لأي تردّد أميركي، وشكّل استهداف هذا المطار إشارة إلى أنه بات موقعاً إيرانياً خاصّاً وأن منظومة صواريخ مضادة للصواريخ جرى تفعيلها فيه أخيراً. وضعت موسكو على الطاولة احتمال المواجهة الدولية، فمعاركها المقبلة ستركّز على أمرَين، أولهما كل الأطراف المتدخلة من موافقة نظام الأسد، بما فيها تركيا (من عفرين، بحسب سيرغي لافروف)، والآخر ترجمة الحسم العسكري بحل يُبقي الوضع السياسي على حاله مع بعض التنقيح.