قلَّ أن وُجِد مسرح تُلعب على خشبته في اللحظة نفسها ثلاثة مشاهد حيَّة. مسيّرات إسرائيلية تغتال جنوباً وبقاعاً قائدَين من «حزب الله» و«حماس» في إطار «مُشاغلة» كارثية أطلقها «الحزب» نصرةً ليحيى السنوار؛ تظاهرة «حزب التحرير» المعبّرة بعد صلاة الجمعة في طرابلس دعماً لبقاء النازحين من منطلق عقيدة «الأمّة» المتجاوزة للأوطان؛ وافتتاح لبناني وعربي مُفرح لسوق دوما التراثية، حتى لو جيَّره أردأ رئيس وأسوأ وريث لرصيدهما.
وإذ كنا نغطّي على الانقسام اللبناني العمودي بادّعاء «التنوّع داخل الوحدة» و»الاختلاف لا الخلاف» و«الميثاق الوطني» الواجب الاحترام، وحيث عشنا على هذا الوهم وذاك الأمل سنوات بعد سكوت المدفع وتوقيع «الطائف»، فلا يمكن اليوم إخفاء شرخ كبير ظهّرته الحرب الدائرة منذ 8 أكتوبر تحت عنوان نصرة غزة، وما أفرزته المواقف الفعلية من النزوح، بصرف النظر عن توصية وهمية صدَّق الرئيس برّي عليها متجاوزاً نفسه ببراعة ذرّ الرماد.
لم يكن همّ «حزب الله» يوماً إقناع من لا يجاريه الرأي بمشروعه العقائدي والسياسي، خصوصاً من يقف معه على طرفي نقيض. هو يعتمد أسلوب السيّئ الذكر عبد الحليم خدّام الذي أجاب حين أُبلغ بأنّ أكثر من مليون مسيحي يعارضون هيمنة سوريا على لبنان: «لا أبالي على الإطلاق. المهم ماذا يستطيعون أن يفعلوا؟ والأهم منعهم من أي فعل». هي مقاربة اعتمدها «الحزب» منذ 2005 لكنه عظّم فعاليتها بسلاحي العنف المباشر والتعطيل، ما تسبّب له بهوَّة ثلاثية الأبعاد: الأول مع سنَّة لبنان عقب جُرح 14 شباط ثم 7 أيار؛ الثاني مع مجتمع «المواطنين» بعد قمع ثورة 17 تشرين بالتكافل والتضامن مع ميليشيات توأمه الشيعي؛ والثالث مع الأكثرية المسيحية التي تحمِّل الحزب المسؤولية عن تفكيك المؤسسات واستباحة الحدود وخطف قرار السلم والحرب وتغطية الاجتياح الديموغرافي السوري، وأخيراً وليس آخراً مصادرة كرسي بعبدا الماروني.
يجدّد «احتفال دوما» برمزيته شعار 14 آذار الأثير عن «ثقافة الحياة» مقابل «ثقافة الموت». وهو لا يعني حتماً القدرة على تدشين سوق أثرية في بلدة بترونية أو حضور حفلة لعمرو دياب تنفد بطاقاتها قبل الصيف فيما القصف يدكّ قرى الجنوب، بقدر ما يعبّر عن مجتمع سياسي وثقافي واجتماعي يستحيل أن يتعايش مع نهج رسّخه «الحزب» وأتاح له أدلجة طائفة وممارسة الغلبة وخوض الحروب خارج الشرعية والعمل الحثيث على تغيير هوية وطن واستتباع شعب متعدّد المشارب ومتنوّع الهويات.
عبثاً مناشدة «الحزب» أن يلاقي كل اللبنانيين عند مشروع الدولة الجامع. لذا، بديهيٌ رفع الصوت بمسؤوليته وحده عن «الحرب بالوكالة» التي يخوضها لأنها ضدّ استقرارهم واقتصادهم ومستقبل حياتهم ونمط عيشهم. فاللبنانيون اختاروا «العيش المشترك» في دولة وليس في دويلات، وفي ظل القانون لا تحت وطأة قبع القضاء والقضاة. وما داموا أسّسوا هذا الوطن على الانفتاح الثقافي والتفاعل الحضاري والحريات، فإنهم لن يتخلّوا عن هذه الثوابت لا من أجل تحرير فلسطين وخدمة محور إيران، ولا طلباً للسلامة تحت شعار «أم الصبي» والخوف على وحدة البلاد.
«دوما» ليست أولى المنارات في فضاء الأمل والفرح وحب الفن والحياة، لكنها رسالة صمود متجدّدة في مواجهة مشروع الممانعة التدميري للوحدة والكيان، ونموذج لما يريده معظم اللبنانيين لكل لبنان.