لا صوت يعلو على «التوافق». «التوافق» أولاً ومن بعده الطوفان. امتلأت الساحات البلدية بشعارات «الميثاقية» و«التوافق» و«العيش المشترك». سعت القوى السياسية ـ المذهبية الممسكة بعنق النظام والدولة إلى تكريس مبدأ «كلنا يعني كلنا»، في المجالس البلدية، ولتذهب الديموقراطية إلى الجحيم. ينبغي تحويل صناديق الاقتراع إلى بصم جماعي على توافق «أمل ـ حزب الله»، «حزب الله ـ الوطني الحر»، «الوطني الحر ـ القوات»، «المستقبل» ـ «ميقاتي ـ مراد ـ المسيحيون المستقلون». المعارك الانتخابية تحوّلت إلى مصادقة «الجماهير»، على اختيارات القيادات نفسها، الممسكة بمفاتيح السلطة المغلقة أبوابها بإرادة مبرمة. الانتخابات البلدية صورة طبق الأصل عن القيادات والتيارات. لا يُرجى من هذه المجالس «المعينة» بالتصويت المنضبط «حزبياً وطائفياً وعائلياً»، أي ديموقراطية. ولا شذوذ على هذه القاعدة إلا في المدن والبلدات التي يتعثر فيه «التوافق». انتهى زمن المعارك الانتخابية والبلدية. التيارات والزعامات والعائلات المالكة مكتفية بذاتها وليست بحاجة إلى امتحان انتخابي، يمكن أن يعرّض تياراً أو مجلساً للمساءلة والمحاسبة. فيا أيها اللبنانيون، انتخبوا مَن انتخبناهم لكم. الانتخاب من فوق ضمانة لاستمرار «الديموقراطية التوافقية».
ويحدّثونك عن بناء الدولة. التوافقية قتلت الدولة وأفلست النظام وأقفلت الطريق إلى الحياة السياسية، بمنسوب معقول، المغاور اللبنانية المتوغّلة في العتمة والفساد والفضائح محروسة «بحكمة» القادة القابضين على مفاصل الحياة في القرى والبلدات، باسم الدين والمذهب وعقيدة الفساد المنظم والمصالح المقيّدة لحساب أصحاب النفوذ.
ويحدّثونك عن الديموقراطية. ينبغي تفتيش الكلمات في اللبنانية. معانيها لا تدلّ عليها. قاموس السياسة في لبنان حافل بالمفردات المزوّرة: الدستور، ليس مرجعية، القوانين غير مرعية، الديموقراطية تسير على رأسها، السيادة بيت من زجاج، القضاء ليس «امرأة قيصر»… إلى آخر ما أنتجه إبداع التزوير اللبناني، ولا تجدي الإطالة في استدعاء مفردات كثيرة، كالمؤسسات وبناء الدولة والمساءلة والمحاسبة… من يقرأ الواقع اللبناني بمفرداته، يُصَبْ بالسراب وأحلام اليقظة. وطنٌ فارغ من قيمه وفضائله. وطنٌ ليس لأبنائه. وطنٌ برسم التصفية في المزاد «التوافقي» بين الطوائفيات والمذهبيات والعشائريات المستيقظة والعائلية المستنفرة.
بدا، لكثرة استعجال مفردة «الوفاق» أنه دلالة على تعاظم الخلاف وانعدام «التوافق»، إشارة إلى انسداد الحال، تعبير عن الإقامة في المأزق، تفسير لحال الشلل، توضيح لواقع العجز، حساب لإفلاس نهائي… اشتداد لغة «التوافق» و«الميثاقية» تدليل على ان الدولة مغيّبة وأن انحلالها موشك على نهايته. ولكي لا يكون هذا الكلام على عواهنه، فهذه هي الوقائع بالبراهين الملموسة:
«ورقة التفاهم» بين «حزب الله» و «التيار الوطني الحر» أراحت التيارين والبيئتين. أمر غير مسبوق بين القيادات والطوائف في لبنان. صمود «التفاهم» في المفاصل الصعبة والمستحيلة منح الصدقية للطرفين. فضائل «التفاهم» كثيرة وواضحة. إنما، انعدمت فائدته في الممارسة السياسية داخل آليات النظام، ما كان مفيداً في ما يُسمّى «عملية بناء الدولة» وما كان فاعلاً في تفعيل المؤسسات، بل كان عقبة مستفزة إبان تأليف الحكومات، وقد بلغ «التفاهم» مرتبة من التسلط دفعت الفريقين إلى «قطع طريق» بعبدا، وإقفال باب انتخاب رئيس للجمهورية، بحجج لا تقنع إلا أصحابها… إذاً، تفاهم جيد للفريقين، وامتناع أن يكون مفيداً في إعادة تركيب أجزاء الدولة، إن لم يكن أسوأ من ذلك كذلك.
«الوفاق» صار أداة لتعطيل الدولة. ما كان هذا منطق التوافق من قبل، أريد للوفاق أن يكون ثانياً والدستور أولاً. الميثاقية كانت لمواكبة تطبيق الدستور لا لتعطيله. بعد «الطائف» تمّ استبدال النصوص بالنفوس. سقط الدستور، والنتيجة: إفلاس سياسي وخراب وطني ومصير قيد المجهول.
الوقائع الجديدة تُظهر تكرار خيبات «التوافق»: اتفاق بين «الوطني الحر» و «القوات اللبنانية»، أراح الفريقين، بعد فتنة شفوية ورّثت «حرب الإلغاء» وحروب الحلفاء. وفاقُ الإثنين لم يفتح الطريق إلى الانتخاب، وأقفل باب التشريع في مجلس النواب. ساحة النجمة مغلقة بإحكام طائفي ومذهبي، نتيجة للوفاق بين الخصوم. الثقل المسيحي المزدوج يمنع التشريع، فيما «الرئيس» قيد الإقامة الدائمة في الرابية، مع وقف التنفيذ، ريثما يحصل «الوفاق الممتنع» بين «المستقبل» و «حزب الله»، بانتظار نهايات بعيدة للحرب الدائرة بين إيران والسعودية.
الاتفاق الأخير بين سعد الحريري وسليمان فرنجية كاد أن يقنع اللبنانيين بأن رئيساً على الأبواب. عبث، اتفاق جديد لم يسمح للمرشحين، عون وفرنجية، بحضور جلسات الاقتراع.
«التوافق» مقتلة للديموقراطية وللنظام السياسي وللدولة. لقد تشلّع البلد بالميثاقية الكاذبة. بلغت الطائفية والمذهبية مرتبة المقدس الذي لا يمسّ. إن حصل، فيا غيرة الدين. لقد بلغ الدستور سن اليأس. استعيض عنه بتجديد حيوية الطوائفيات العابرة للحدود والأوطان، والحصن الحصين للفساد المنظم والمشترك. وللفضائح المباحة للكلام بلا أفعال.
المعارك البلدية الجديرة بالاحترام هي تلك التي خرجت على تقليد «الوفاقية» والتي سجّلت حضوراً في «بيروت مدينتي»، وفي «مواطنون ومواطنات في دولة» وفي عدد من القرى والبلدات التي رفضت الركون إلى الانتخاب من فوق.