Site icon IMLebanon

فلتسقط «النسبية»… الطائفية ضد الديموقراطية

انتهت المعارك الانتخابية البلدية بفوز «مبدأ النسبية». أقطاب السلطة المتحكمة قرأوا النتائج. خافوا. الآتي قد يكون مؤلماً. لا بُدَّ من «منحة». المزاج الشعبي فك أسره المذهبي نسبياً. تجرأ على «الثوابت». الطاعة خُرقَت بغضب غير محسوب. لم يعد القناع التنكري مقنعاً. سقط المهرجون مع أبراجهم المالية. اكتشف المزاج الطائفي أنه تعرَّض لعملية نصب سياسية: المختلفون متفقون، تحالف الأضداد دلالة على صفقة. «أوراق التفاهم»، «نصوص النيات»، «ترشيح المرشح»، أفضى إلى وضوح الفضيحة: هؤلاء المختلفون، المتناقضون، الأضداد، ليسوا مختلفين في شيء وعلى أي شيء، باستثناء الحصة. الخلاف الوحيد والجدي والواضح والصريح، هو خلاف «تيار المستقبل» مع «حزب الله». ما عدا ذلك مصطنع ومتبدِّل. معظم أعداء الأمس، هم حلفاء اليوم. ترى، على ماذا كانوا مختلفين؟

قد تكون «النسبية» رشوة مجزية، وهي باب من أبواب التسلل إلى استعادة النفوذ، عبر تطعيم المجلس، بمن يمثِّل حالات مبعثرة من تيارات المجتمع المدني، غير المؤهل حتى الآن، للملمة صفوفه حول قضايا أقل رتبة من «المناصب النيابية». لا تخشى الطبقة المتحكِّمة أقلية نيابية متفهّمة. المتمردون والأحرار سيكونون قلة، أو «صوتاً صارخاً في برية».

الانتخابات النيابية على الأبواب. ظنٌّ سابق لأوانه، الاحتراز دهاء مضمون. افتتح الكثيرون الكلام على «قانون الانتخاب المستحيل». تبرأوا من الستين ومالوا إلى تزويج «النسبي» إلى «الأكثري». حصة زعامات السلطة الطائفية والمذهبية مصونة ومؤكدة. قيادات مطمئنة إلى بيئة تدار بالغريزة والانفعال والتخويف والمصالح. حصتهم في «النسبي» راجحة. الفتات حصة مَن تبقى، ولنسمِّهم «الخوارج على الطوائف والمذاهب». هكذا، يتم تفريغ «النسبية» من محتواها التمثيلي، عبر حصة مضمونة، فهم يفوزون بالنسبية، بنسبة جديرة بتكوين كتل وازنة.

الغريب، حماسة فئات محرومة من التمثيل، باعتبار أن قانون «الأكثري» قد ظلمها وأقصاها، وهذا صحيح. الغريب أكثر، أن فئات سياسية وشرائح شبابية طامحة للتغيير، وقوى اجتماعية ومدنية مؤمنة بالإصلاح، باتت تطالب بقانون انتخابي، يلحظ «النسبية»، ولو كان مرتهناً لـ «الأكثري» وملحقاً به.

المشكلة، ليست في إضافة «النسبية» إلى قانون أكثري فقط. كل المشكلة في كون القانون الانتخابي اللبناني طائفياً ومذهبياً. دول كثيرة في العالم تعتمد النظام الأكثري. دول كثيرة ترسم الدوائر الانتخابية وفق تصورات سياسية. قد تكون دوائر صغرى أو وسطى أو كبرى. قد تكون على مرحلتين. دول كثيرة باتت تقيِّد الإنفاق الانتخابي والحملات الترويجية والدعائية وتمنع الرشوة وشراء الأصوات. دول كثيرة باتت تعتمد المكننة الشاملة كي تكون العملية الانتخابية كامرأة قيصر، ودول تفرض على مواطنيها إلزامية الانتخاب، إلى آخره من الإجراءات. الأساس الذي تفسد فيه العملية الانتخابية هو في تنسيب المواطنين إلى طوائفهم وإلزامهم بذلك، ولو كانوا غير طائفيين. مثل هذه القوانين، لا تُفرز ممثلين عن الشعب، بل عن الشعوب الطائفية.. النموذج اللبناني الراهن والسابق، يثبت أن لبنان كله في الأسر، وتحريره لا يتم بتكريس قانون طائفي أكثري ـ نسبي، له ديمومة قد تمتدّ إلى أكثر من عمر «الستين».

في التفاتة إلى تاريخ لبنان الانتخابي، نكتشف أن لبنان عرف تنويعات هامشية على قانون الانتخاب. ترسيم الدوائر خضع لحسابات السلطة وفازت. عدد النواب كان كأسهم البورصة صعوداً وهبوطاً. التدخل في الانتخابات سُنَّة مشى عليها اللبنانيون، منذ الاستقلال إلى عهد الوصاية السورية. ولا مرة كانت الانتخابات النيابية نظيفة. إنها ملوَّثة بالطائفية، سلاح السلطة وسلاح رأس المال وسلاح القوى الخارجية. فماذا تنفع إضافة «النسبية» إلى قانون طائفي؟

في التفاتة أخرى فاقعة، نكتشف أن الذين نشكو منهم اليوم، هم من سلالة الماضي. إنهم أنفسهم بأسماء أخرى. إقطاع ورث إقطاعاً. بيت ورث بيتاً. عائلات ورثت عائلات. مفاتيح ورثت مفاتيح. أحزاب طائفية قلّدت أحزاباً سابقة. إنهم أنفسهم جنوباً وشمالاً وجبلاً وبقاعاً وعاصمة. الجديد يقلّد القديم.

النسبية حجة لتبرئة ذمة الطائفيين المتمسكين بعقيدة الطائفية، برغم معرفتهم التامة بأنها ولادة أزمات، فبسببها، لا بسواها، رئاسة الجمهورية فارغة ومجلس النواب مُقفَل ومجلس الوزراء معطل والمؤسسات محسوبة على الفساد والمفسِدين، ولكل زعيم محاسيب. بسبب الطائفية المستبدة، بات الفساد مقدّساً لا يجرؤ عليه أحد، كل هذا الفساد المنتشر، ولا نجد حكماً قضائياً بفاسد.

فماذا يضيف نواب يفوزون بالنسبية على مقاعد محجوزة سلفاً للطوائف والمذاهب، الحامية لزعمائها والمؤمنة بحتمية حماية الفساد؟ الأدلة بالمئات. الفاسدون حكام البلاد على امتداد 10450 كيلومتراً مربعاً.

الحل ليس بالنسبية، ولو كانت قوام النظام الانتخابي. الحل منصوص عليه في اتفاق الطائف. خريطة الطريق واضحة ولم يسلكها أحد، لا أهل السلطة ولا مَن يُفترض أنهم مع التغيير والتجديد لبلوغ محلة يتم فيها تحرير لبنان من الطائفية، فيصير دولة مستقلة وبسيادة وطنية… إنقاذ لبنان والشروع بالحلول المؤجَّلة، رهن بتنفيذ ما نصّ عليه «الطائف» وصار نصاً دستورياً، يقضي بإنشاء الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية، وإقرار قانون انتخابي خارج القيد الطائفي وإنشاء مجلس شيوخ تتمثل فيه العائلات الروحية. هذا هو «الحجر الذي رذلة البناؤون ـ الهدّامون».

اتفاق الطائف ليس مدرجاً على جدول أعمال أحد، حتى أن قوى التغيير في المجتمع المدني، تهمله أو ترفضه. ولا يبقى سوى تكرار المهزلة المؤلمة، إقرار قانون انتخابي يعيد الفساد إلى نصابه السياسي، في كل المؤسسات.

«النسبية» كذبة… تصديقها معيب وتأييدها تنكّر للديموقراطية، حيث ثبت أن لا ديموقراطية مع الطائفية. فهذه تلغي تلك. والخيار الوحيد راهناً هو بين الديموقراطية والطائفية.