حين يُطمَر شعبٌ بالنفايات ولا يتحرك، فليسقط هذا الشعب لا مَن طمره. حين يكون أكثر من 10 في المئة منه مصابا بالسرطان بسبب الأوبئة وفساد المأكول والمشروب والأدوية، فليمت هو لا مَن تسبّب بموته. حين يكون معظم نخبه مباعين في أسواق النخاسة وموزعين على وسائل إعلام ومراكز دراسات تُغرق أصوات هذا الشعب بالمال لتُخرسها، فليصمت الى الأبد. حين يكون همُّ القاضي هو إرضاء من عيَّنه لا إرضاء ضميره، فليصمت المتشدقون بحسن سير العدالة. الشعب هو المسؤول عن مآسي لبنان، وليس ساسته، فهؤلاء جاؤوا أصلا ًمن رحم الحروب والفساد، ولا ننتظر منهم أن ينقلبوا على ذواتهم. إن مبرر وجودهم هو فسادهم واحتقارهم للشعب. والشعب يبادلهم ذلك بالخنوع والتسليم والرضى وعدم الخروج على الحاكم، وإنما معه وإليه.
في الذكرى الـ41 للحرب اللبنانية، التي بدأت وطنية عروبية يسارية قومية فلسطينية، وانتهت بتناهش الوطنيين وغير الوطنيين لحوم بعضهم البعض على مزابل التاريخ والجغرافيا، وتحولت القضايا عاهرات وبغايا على قارعات الطرق الإقليمية والدولية، لا يسعنا الا ان نهنئ ساسة هذا البلد، لأنهم أثبتوا فعلا أنهم عباقرة الفكر السياسي على مستوى العالم. لم يعرف شعب او دولة هذا الذل والاحتقار من سياسيين لشعبهم، واستمروا في الكراسي طيلة هذه السنوات، وها هم يُعدون الكراسي للأحفاد بعد ان ضمنوا وراثة الأبناء.
نعم، الشعب اللبناني طائفي ومذهبي بامتياز، ومن شذ عن القاعدة فهو استثناء. ولأنه كذلك، فهو لن يحمي أي شيء له علاقة بالدولة والمؤسسات إذا ما تناقضت الدولة مع الزعيم المذهبي او الاقطاعي او الطائفي او المالي. نعم، ان كثيرا من اليسار السابق كان وهما انهار بمجرد وصول أول رأس مال كبير متمثل بالرئيس الشهيد رفيق الحريري. أثبت يسارنا العظيم أنه يبقى شيوعيا أو اشتراكيا حتى يتوفر رأس المال فيتحول الى البرجوازية والرأسمالية. هي مسألة وقت.
صدق اوسكار وايلد حين قال: «ان الديموقراطية هي سحق الشعب بالشعب لأجل الشعب». نتباهى ان عندنا ثقافة وفناً ومسرحاً وحياة وعلب ليل، لكن الشعوب المقهورة هي التي تُبدع لتحتال على قهرها. قال ألفرد دوموسيه: «إن الشعب الحزين هو الذي يصنع كبار الفنانين». طبعا لا نتحدث عمن تُكرِّمهم الوزارات عندنا، فهذه قصة أخرى؛ نتحدث عن المبدعين الحقيقيين الذين اما انكفأوا قهرا او باعوا إبداعهم، هم أيضا، ويساريتهم، هم أيضا، في أسواق نخاسة أخرى وتذرعوا بنشد الإبداع العالمي.
ان شعبا كبيرا هو الذي يُنتج قادة كبارا ومقاومين شرفاء ووطنيين صادقين ومفكرين شرفاء ونخبا مهمومة برفع مستوى مجتمعاتها؛ اما الشعوب الخانعة، فاخشى ان تكون كما وصفها فيكتور هوغو بأنها «كالحمار الذي يرتد الى الخلف» بين وقت وآخر ويرفس، لكنه يعود دائما الى وضعه الطبيعي. فعندنا الشعب تدَّجن الى درجة حتى الرفس ما عاد يعرف اليه سبيلا.
في بلد يغرق بالأمطار والثلوج كل الشتاء والخريف، لا ماء عنده يشربها. لا يحق للشعب أن يشكو. وفي بلد انتهت حربه المجانية منذ ربع قرن ولم يعرف كيف يضيء المنازل من دون مولدات، ولا يعرف شعبه سوى النحيب. وفي بلدٍ التعليمُ هو الاغلى في العالم، والطبابة صارت رفاهية تقتصر على الميسورين، وفي بلد يكتشف كل يوم فضيحة فساد غذائي او طبي او اجتماعي او أخلاقي، وفي بلد يحتاج المرء فيه الى واسطة او رشوة حتى لكي يدفع فواتيره، وفي بلد لا قانون سير فيه ولا إشارات ضوئية ولا طرقات، وفي بلدٍ الهاتفُ والانترنت فيه هو الاغلى في العالم (بالرغم من سوء الخدمة)، وفي بلد يتباهى القاتل بنحر ضحيته في وضح النهار بسبب أولوية السير، تكون المشكلة في الشعب لا في ساسته.
لنأخذ على سبيل المثال فضيحة الدعارة. مَن الذي شَجَّعَها؟ أليست الشعوب الغفيرة والغفورة التي ذهبت الى علب الليل تبحث عن الفتيات المقهورات السليبات المجلودات، فمارست معهن الفحشاء وعادت تبكي مصائرهن؟ لنقم بحساب بسيط: قبضت أجهزة الأمن (بالصدفة طبعا) على 75 فتاة سورية. تقول إحدى الفتيات، إنها كانت تُجبر خصوصا يوم السبت على ممارسة الدعارة مع 20 رجلا. أي ان كل سبت كان 1500 شخص يذهبون لممارسة الدعارة مع الفتيات. أي ان هؤلاء الفتيات كنَّ فقط كل عام يستقبلن 108 آلاف شخص. ولو صدقنا ان الشبكة موجودة منذ 11 عاما، يعني ان مليوناً و188 ألفا من اللبنانيين وغير اللبنانيين مروا على تلك الشبكات وتمتعوا بالفتيات. نتحدث هنا فقط عن 75 فتاة، تم العثور عليهن، فما بالك باللواتي لا زلن يمارسن ويستقبلن بشروط أكثر رفاهية.
مَن هو الداعر في هذه الحال، الفتيات، ام الشعب؟
في الذكرى الـ41 للحرب الأهلية التي أخذت يوما ما طابع الوطنية (ربما بالخطأ)، لا بد ان نشكر ساسة هذا البلد، فهم بحاجة لبقاء هذا الشعب للركوب عليه، ولذلك، فقط، ربما يحافظون على بعض الفُتات لاسكات جوعه… قد يأتي يوم ويتوقف الشعبُ فعلا حتى عن الرفس، فسياسة التدجين فعلت فعلها. لكن… وغدا قد تذهب الأغنام للتصويت في الانتخابات البلدية لمن يجلدها، وسيتفنّن الساسة في التمديد لأنفسهم، بينما في الجوار دول الحروب تنتخب تحت القنابل، ونحن نبكي غياب رئيس بانتظار أن يَمنّ علينا الأقليم او الصفقات الدولية برئيس (ويقولون لك سيكون هذه المرة صناعة لبنانية… هه).
قد يأتي يوم أيضا، وتصحو الضمائر، وتشتد السواعد، ويصبح الغضب عارما، فيرمي الشعب مَن احتقره في مزابل المدن والقرى والأحياء الفقيرة، وما أكثرها هذه الأيام. «عجبت لجائع لا يخرج شاهراً سيفه». أليس الغضب هو الذي جعل شعب الجنوب عظيما، فقهر أسوأ طغاة العصر وآخر نظام عنصري. اليوم أعداء الداخل ربما أسوأ. إسرائيل قتلتنا علنا، هؤلاء يقتلوننا كل يوم بأبشع الوسائل. كُلُّ مَن يغطيهم هو إمَّا متآمر، او ما عاد حتى صالحا للرفس.