من نافل القول إنّ الجيش اللبناني أصبح هدفاً مؤكّداً للمسلحين المتطرفين، ليس في الداخل وحسب، بل على الحدود. وقد جاء المكمن الذي تعرّضَت له دورية عسكرية في رأس بعلبك ليحسمَ أيَّ جدل أو تردّد في توصيف ما يتعرّض له لبنان من حرب إرهابية دخلت مرحلة «توسيع رقعة المواجهة» والاستنزاف.
يحلو للبعض إثارة الغبار في العيون وحرفَ أيّ حدَث عن مساره، فيُصبح قتال «حزب الله» في سوريا مسؤولاً عمّا تتعرّض له المؤسسة العسكرية، في حين أنّ الوقائع التاريخية والحاليّة تنقض كلّ هذه المنظومة الكيدية من الخطاب، والاحداث التي عاصرناها وعايشنا فصولها تجزم كلّ انحراف.
ولأنّ ذاكرة هذا البعض قصيرة، لا ضرَر في استعادة مشاهد الارهاب الذي تعرّض له لبنان منذ تسعينات القرن الماضي، حتى تتهافت كلّ النظريات وتسقط كل المواقف ذات البعد السياسي وتلك التي تستثمر في دماء شهداء الجيش لتثبت صحة «ادعاءاتها».
منذ العام 2000 وأحداث الضنّية، حتى كمين «رأس بعلبك» مروراً بـ«عين علق» و«عبرا» و«النهر البارد» وغير ذلك من استهدافات، تجاوز عدد جرحى وشهداء الجيش المئات، وإنْ كانت الذاكرة لا تسعِف البعض على الرؤية، في وسعِه الاستعانة بأرشيف المؤسسة العسكرية والصحف ونشرات الاخبار، ليدرك أنّ حرب الجماعات الارهابية، بمختلف مسمّياتها، على الجيش اللبناني بدأت قبل أحداث 11 أيلول 2000، وليس لـ«حزب الله» فيها أيّ صلة، سوى أنّه استدرك المخاطر باكراً، وانخرط في حرب استباقية خفّفت منسوبَ المخاطر التي كان من شأنها أن تواجه الحدود الشرقية والشمالية، وتتّحد مع الخلايا النائمة وبعض الأنصار والمؤيدين في الداخل.
عندما ننطلق من هذه «المسَلّمات»، نستطيع قراءة الحرب المعلنة على المؤسسة العسكرية بلا تشويه وتشويش. وعندئذ يصبح في الإمكان تشكيل مظلة وطنية للجيش لا يقدر الإرهابيون وداعموهم اختراقَها أو الاستثمارَ في تناقضاتها على رغم «معرفتهم الكافية» في الشأن اللبناني ومتابعتهم عواملَ الانقسام السياسي وقدرتهم على الابتزاز انطلاقاً من هذا الانقسام. وقد جاءت مأساة العسكريين المخطوفين لتؤكّد أنّ هؤلاء ليسوا حالة عابرة أو عرَضية بل يمثّلون مشروعاً يستهدف كلّ المنطقة ومن ضمنها لبنان بصيغتيه الميثاقية والدولتية.
دماءُ شهداء الجيش التي تسقط على الحدود عنوان معركة يبدو أنّها طويلة ودخلت مرحلة الاستنزاف. وهذا ما يفرض على جميع اللبنانيين أعلى درجات اليقظة، والابتعاد عن الألعاب السياسية التقليدية والانقسامات ذات الطابع المحلي نحو تضامن سياسي مع الجيش يكون واضحاً وشفّافاً ولا يتحمّل التأويلَ والتفسير.
في وسعنا توسيع دائرة التحليل وإعطاء الكمين المجرم واللئيم الذي تعرّضَت له دورية الجيش جملةَ تفسيرات سياسية وعسكرية، لكنّ هذا الأمر ليس الأهمّ في مهمّة حماية المؤسسة العسكرية وحماية الصيغة المهدّدة بمشروع خطير.
الأهمّ هو الخروج من دائرة النقاش العقيم، ومغادرة الاستثمار السياسي، وجعل الجيش اللبناني محلَّ ثقة وإجماع واتّفاق كلّ المكوّنات والقوى السياسية، والعمل على دعمه لوجستياً وعسكرياً وسياسياً، وعدم محاصرته بالحسابات والسياسات التي من شأنها إضعافه، وبالتالي إضعاف الصيغة والكيان وزوال الجمهورية.
الجيش اليوم هو لبنان، وهو الصيغة، وهو ما تبقّى لنا من جسم نتوحَّد فيه وعليه، وأيّ تفريط واستسهال في التعامل مع الحرب التي يُواجهها البلد من
خلال جيشه سيُرتّب مخاطرَ لا تقوى دوَل أكبر من لبنان على التعامل معها.
ألم يرَ البعض كيف تفكّكت دولة بحجم العراق؟ وكيف تنهارُ دولةٌ بحجم سوريا؟ وكيف تتشظّى دولة بحجم اليمن؟ ألم يرَ هؤلاء كيف سقطت الحدود بين سوريا والعراق، وكيف رسَمت «داعش» حدودها بين الدولتين؟
كمين «رأس بعلبك» أخطر عمل عسكريّ يتعرّض له الجيش على الحدود منذ أحداث عرسال، فالشهداء سقطوا غيلةً وليس في معركة، ما يعني أنّ الإرهاب افتتحَ مرحلة جديدة من المواجهة والحرب التي لا ينفعُ حيالها التكرار الببّغائي للحجَج الواهية والجمَل السياسية التبريرية المعَدّة والمعمَّمة سَلفاً.