يمكن القول إن المؤتمر الإقتصادي الذي إستضافتْه مصر في منتجع شرم الشيخ يوم الجمعة 13 آذار الجاري نجح خطوة خطوة ومن قبل أن ينعقد.
كانت الخطوة الأولى يوم دعا الملك عبد الله بن عبد العزيز رحمة الله عليه إلى هذا المؤتمر دعماً عربياً – دولياً لمصر. وعندما يقول الرئيس عبد الفتاح السيسي في كلمة إفتتاح المؤتمر «… وما إجتماعنا اليوم إلاَّ نتاج لجهد صادق بذله المغفور له بإذن الله جلالة الملك عبد الله بن عبد العزيز من خلال دعوته الكريمة إلى عقْد المؤتمر…»، فإنه بذلك يُؤكّد أهمية الخطوة الأولى.
وجاءت الخطوة الثانية المطمْئنة والمتمثِّلة بطبيعة المحادثات التي أجراها الرئيس السيسي مع خادم الحرميْن الشريفيْن الملك سلمان بن عبد العزيز في الرياض يوم الأحد أول آذار الجاري وما سمعه منه. وعندما يقول الرئيس السيسي في كلمة الإفتتاح «… وليس غريباً على المملكة تحت قيادة خادم الحرميْن الملك سلمان بن عبد العزيز أن تكون تلك مواقفها المشرِّفة إزاء أشقائها، فهذا نهْج أسَّسه الملك المؤسِّس وسار على دربه الملوك الأبناء الراحلون (سعود وفيصل وخالد وعبد الله) والملك السادس سلمان…». ولهذه الخطوة تكملة تمثَّلت بقول وليِّ العهد الأمير مقرن بن عبد العزيز الذي ناب عن أخيه الملك سلمان في المشاركة «إنطلاقاً من العلاقات التاريخية الراسخة والمصير المشترَك واصلت السعودية دعْمها لمصر على الأصعدة كافة إذ قدَّمت المملكة مساعدات غير مستَردَّة وقروضاً، كما قدَّمت مساعدات مالية ومِنَحاً نفطية خلال الفترة الماضية دعماً لجهود الحكومة المصرية لتعزيز تعافي الإقتصاد وإستمراراً لموقف المملكة الداعم لمصر وإستقرارها. ومن شأن دعْم المجتمع الدولي لمصر أهمية في تلبية الحاجات التنموية الملحة ومساعدة الحكومة المصرية لوضْع الإقتصاد على مسار مستدام. ومن هذا المنطلق نرحب بمشاركة كل من صندوق النقد والبنك الدولييْن والمؤسسات المالية الدولية الأخرى في المؤتمر…». وهذا الكلام من وليِّ العهد بعد التمنيات بالنجاح والتأكيد من جانب الملك سلمان (الذي لم يُشارك في المؤتمر لأنه سيتحادث مع رئيس أفغانستان محمّد أشرف غني الذي زار الرياض يوم الأحد ولأنه أيضاً سيشارك في القمة العربية الدورية بعد عشرة أيام) تأكيد بأنَ وقفة النخوة السعودية إزاء مصر ثابتة، وتبدو كما لو أنها إحدى وصايا الطيِّب الذكر الملك عبد الله بن عبد العزيز لإخوانه من بعده.
وكانت الخطوة الثالثة في مقومات نجاح المؤتمر متمثلة بنخوتين خليجيتيْن أُخريْين هما: النخوة الكويتية التي تمثَّلت بقول الأمير الشيخ صباح الأحمد، بعد التنويه ببُعد نظر الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز لدعوته إلى المؤتمر، «إن الحضور الكبير في هذا المؤتمر يُؤكّد المكانة الكبيرة التي تحتلها مصر على المستوييْن الإقليمي والدولي والإهتمام الذي يوليه العالم للفرص الإستثمارية الضخمة الواعدة فيها لما مَنَّ الله به عليها من نعمة الأمن والأمان بفضل جهود الرئيس السيسي وحكومته الرشيدة. إن مصر تتمتع بالمقومات اللازمة لنجاح أي إستثمار، وأؤكد مجدداً دعْم بلادي اللامحدود للأشقاء في مصر لنمو إقتصادهم وتحقيق المعدلات المنشودة وخلْق الفرص الإستثمارية الواعدة…»، تليها النخوة الإماراتية التي عبَّر عنها نائب رئيس الدولة حاكم دبي الشيخ محمّد بن راشد آل مكتوم وإرفاق الإعلان عن أرقام النخوة المليارية بالقول: «لا وجود للأمة العربية من دون مصر ولا يمكن مصر أن تستغني عن أمتها العربية. مصر وطن ثانٍ لنا كما أن الإمارات وطن ثانٍ للمصريين، لنا ما لهم وعلينا ما عليهم. مصر هي عناية الرحمن وموطن السلام والعروبة فيها خير أجناد الأرض والوقوف مع مصر الحاضر هو بث الروح في مستقبل الأمة، وما سنضعه في مصر اليوم هو إستثمار للأمة سنراه في المستقبل القريب…».
وهذه المفردات الوجدانية تشبه في بعض معانيها تلك المفردات التي إتسمت بها الكلمة التي ألقاها رئيس الحكومة اللبنانية تمام سلام وجاء فيها قوله: «إن التطورات المتلاحقة منذ ثورة 25 يناير أدت إلى إشغال مصر بهمومها الذاتية وحرمان العالم العربي من دورها الوازن والفاعل الذي إعتاد العرب اللجوء إليه في الملمات. وهذا الواقع ساهم في زيادة الوهن في البنيان العربي مما سهَّل لإسرائيل المضي في سياسة العدوان وخلْق وقائع جديدة على أرض فلسطين من دون رادع ولا حسيب، كما شرَّع الأبواب أمام تدخلات خارجية متمادية في العديد من الدول العربية بما يُهدّد نسيج مجتمعاتها ووحدة كياناتها، ولا يمكن أن ينجح ردْم الثغرة في جدار المناعة العربية إلاَّ بعودة العافية إلى مصر ونحن على ثقة بأن القوات المسلحة وأجهزة الأمن المصرية مدفوعة بقرار سياسي حاسم قادرة على دحْر ومعاقبة كل مَن يريد شراً بمصر وأهلها…». وهذا الكلام من الرئيس تمَّام سلام الذي شمل تسجيل الشكر للسعودية على مساندة لبنان، ومعه كلام الرئيس الفلسطيني محمود عباس يندرج في سياق ما يلخصه قول الشاعر: «لا خيل عندي أُهديها ولا مالُ… فليسعف النطق إن لم تسعف الحال» لكنه في أي حال كلام فاعل على صعيد رفْع المعنويات. أما الرئيس السوداني عمر البشير الذي يستعد لولاية جديدة تنتهي في العام 2020 وبعدها يزهد بالحكم الممسك به منذ 30 حزيران 1989 فوجدها مناسبة لكي يوجز أهمية الإستثمار في السودان بالقول: «لدينا الأرض والماء ولديكم (مخاطباً السيسي) القدرات البشرية وفي الخليج الأموال وفي ذلك تنشئ مصر مع السودان مشروع إنتاج الحبوب والغذاء واللحوم والصناعات المكمِّلة…». ولم يقل أحد للرئيس البشير إن ذلك ممكن عندما يستقر السودان على حال ويعتمد نهجاً كالذي أوجزه الرئيس السيسي بالقول «إن مصر تسير بخطى واثقة على المسارات والأصعدة كافة لتحقيق النمو الإقتصادي وتُقدِّم نموذجاً للحضارة العربية والإسلامية.. دولة تنبذ العنف والإرهاب والتطرف، دولة تعزِّز الإستقرار الإقليمي. تحترم جوارها. تدافع ولا تعتدي. تقْبل الآخر وتحترم التنوع…»، ومع هذه المبادئ كانت هنالك الخطوة الإستثنائية المتمثلة بإستباق المؤتمر الإقتصادي بحزمة من التشريعات التي تطمئن رؤوس الأموال وتغري المستثمرين وتقطع الطريق على المنازعات التي طالما أبعدت مستثمرين من جهة وكلَّفت الخزينة المصرية مبالغ ضخمة دفعتْها مصر جزاء عدم الإلتزام بإتفاقات تمّ إبرامها. وإلى ذلك هنالك مسألة الضرائب وتيسير إنشاء الشركات. وهنا قد يجوز الإفتراض أن أهل الإقتصاد المصري إقتبسوا من سلوكيات زملائهم في دولة الإمارات ما من شأنه جذْب إستثمارات نوعية. وعندما زار رئيس الحكومة المصرية أبو ظبي ودبي يوم 12 شباط الماضي سمع من أهل الحكم ومن المسؤولين عن الإستثمار وكذلك من السلطة التنفيذية المشرفة على أهم منطقة صناعية حرة في الخليج وفي العالم العربي عموماً ونعني بها «جبل علي» في دبي ما أفاد في تسريع بلورة خارطة طريق الإستثمار الناجح الذي يتطلع إليه الرئيس السيسي، مع الإشارة إلى أن «صندوق الشيخ خليفة» سيتولى تدريب مئة ألف شاب مصري بما ييسر خُطط الإستثمار في مصر. ولقد عاد رئيس الحكومة المهندس إبراهيم محلب من زيارته تلك غانما موقفاً إماراتياً متميزاً أوجزه وليّ عهد أبو ظبي الشيخ محمّد بن زايد آل نهيان لدى التباحث مع محلب بالقول «إننا ننظر إلى مصر على أنها العمود الفقري ويجب أن تقف على قدميها وتعود إلى مكانتها…». وعندما إلتقى الرئيس السيسي بالشيخ محمّد عشية إنعقاد مؤتمر شرم الشيخ كرَّر وليّ العهد تأكيد الوقفة بمفردات أقوى حيث قال «إن دعْم مصر في هذه المرحلة التاريخية هو دعْم لمصر الدولة والتاريخ والحضارة والمستقبل، ذلك أن مصر هي صمَّام أمان حقيقي للمنطقة بما تُمثِّله من ثُقل إستراتيجي وأمني لكل شعوب ودول المنطقة…».
نجاح المؤتمر الإقتصادي الذي شارك فيه حوالى ثلاثين من رؤساء دول ورؤساء حكومات وحوالى خمسمئة من وزراء ورؤساء إدارات وأكثر من ألفيْ مستثمر عربي وأجنبي وحصلت فيه عقود بعشرات المليارات دولار، يمهد الطريق أمام نجاح القمة العربية الدورية التي سيستضيفها السيسي بعد عشرة أيام. في مؤتمر شرم الشيخ الإقتصادي كانت هنالك وقفة مليارية خليجية سخية من السعودية والكويت والإمارات (12 مليار دولار، أربعة مليارات من كل دولة بين ودائع لحماية الجنيه المصري ومِنح ومساعدات إقتصادية وتوظيف في مشاريع) ووقفة مليونية من سلطنة عُمان (500 مليون دولار) نصفها منحة والنصف الثاني إستثمارات. وكانت الوقفة القطَرية لو حدثت، أي لو شارك الأمير تميم وليس فقط بعض رجال الأعمال، وحدثت بالسخاء السعودي – الكويتي – الإماراتي – العُماني لكان المؤتمر الإقتصادي في شرم الشيخ تحت شعار «مصر المستقبل» سيكون الأهم بين مؤتمرات تندرج في سياق تصويب الأوضاع الإقتصادية، لكن مع ذلك خرجت مصر السيسي غانمة بضعة مليارات كفيلة بإحداث نقلة نوعية في وضعها الصعب وتحفيزها للدور الذي من أجله كانت النخوة الخليجية وهو ما سبق أن لخصه الرئيس السيسي بالقول «أمن مصر من الأمن العربي، وأمن الخليج من أمن مصر».
أما في القمة العربية الدورية فستكون هنالك نظرة أميركية أفضل للحكم المصري مهَّد لها وزير الخارجية جون كيري الذي قال في كلمته أمام مؤتمر شْرم الشيخ «إن مشاركتي تستهدف إزالة أي لُبْس عن توتر في علاقتنا مع مصر»، كما ستكون من جانب الأشقاء العرب وقفة سياسية تدعيماً للدور المصري المأمول وبالذات لجهة إقناع إيران بتعديل خطابها الإستفزازي وتدَّخلها في شؤون دول عربية وبالذات العراق واليمن وسوريا ولبنان.
ويبقى التمني من جانب الذين عاصروا مصر في أزهى سنوات العز الوطني والنهوض القومي ونحن من بين هذه الأطياف أن يطول بنا العمر لنرى في العام 2020 قيام القاهرة الجديدة والأكثر عصرية التي هي أحد المشاريع الإستثمارية ستُنفذِّها دولة الإمارات من خلال شركة «إعمار» والتي ستكون العاصمة الإدارية الجديدة لمصر، ولنرى أن جماعة الإخوان طوت مشاريع العنف وعوَّضت عن سنوات مضت كانت وبالاً على سمعتها وعلى الوطن عموماً وذلك بتقديم الواجب الوطني لكي تقوم «مصر المستقبل»، ولنرى أن المليارات الإستثمارية ستكون في الأيدي الأمينة ذلك أن النخوة واللهفة للوقوف إلى جانب مصر قد لا تتكرر إذا كان سيحصل خلال السنوات الخمس المقبلة ما كان يحصل خلال السنوات العشرين الماضية ومن أجل ذلك بات العجز في الميزانية بالبلايين.
… ورحمة الله على الرئيس رفيق الحريري الذي كان يتطلع إلى مثل هذا المؤتمر ينعقد في بيروت وينقل لبنان إلى ما سينقل مؤتمر شرم الشيخ مصر إليه من إزدهار.
وبقدْر فرح الأمة بما تحقَّق في شرم الشيخ مع التمني للرئيس عبد الفتاح السيسي بموفور الصحة وطول العمر لكي يعيش أزهى فوزه الإقتصادي إستكمالاً لفوزه الأمني الرئاسي.. بالقدْر نفسه يغمرنا شعور عميق بالأسى لأن حُلْم رفيق الحريري إنتهى بإغتياله كابوساً يعيشه اللبناني للسنة العاشرة على التوالي. كان الله في عون هذا اللبناني ومبروك الفوز الذي حظي به ذاك المصري.