تخريج أعداد جديدة من تلاميذ “قيادة السيارات”
بعد ثلاث سنوات من الفوضى التي تسببت بها فضائح “النافعة” على الطرقات، خصوصاً بسبب حرمان ثلاثة أفواج من الشابات والشبان رخصة السوق إثر بلوغهم السن القانونية لقيادة السيارات، كان من المتوقع أن تنطلق عجلة هيئة إدارة السير مجدداً من أرضية إصلاحية تطبق القانون الصادر منذ العام 2012. إلا أن هذا القانون “التقط” مجدداً من “زيله”، ففرض تطبيقه مجتزأً بعد 12 عاماً من تجاهله، تغييرات في التسميات ومسار وشروط وأسعار الحصول على رخص السوق، بينما أدوات الفوضى بقيت حاضرة. وهذا ما يضع القيمين على المرفق أمام تحدي التقيد بروحية القانون، دحضاً لكل شبهة تثار حول محاولات الالتفاف عليه إرضاءً للشهية المفتوحة على “جبنة النافعة” ومغانمها.
أكثر من مئة ألف شابة وشاب ممن بلغوا سن الـ 18 منذ العام 2022، وفقاً لتقديرات مبنية على أعداد المتقدمين للحصول على دفاتر السوق سنوياً، ينتظرون دورهم حالياً. ما يُفرح هؤلاء الشبان أنهم الجيل الأول الذي سقطت معه حصرية محرك السيارة اليدوي في امتحان السوق، فطبق القانون الذي يتيح امتحانهم بواسطة “السيارة الأوتوماتيك” أيضاً، حتى لو لم يشكل ذلك مهرباً من العبور الإلزامي عبر “مدارس تعليم القيادة” أولاً. هذه المدارس التي تأخرت ولادتها 12 عاماً عن صدور قانون السير فهل يكون في التأخير خير؟
على الموقع الإلكتروني الرسمي لهيئة إدارة السير نشرت أسماء دفعة أولى من مكاتب السوق، استوفت شروطاً “لوجستية” تحددها المادة 241 من القانون، فبات اسمها “مدرسة”.
فضلت الدولة ألا تقطع أي عنق في تقليعتها الجديدة في النافعة، وذلك بعد فضائح بيع الرخص ودفع الرشاوى التي تورط بها قسم من هذه المكاتب أيضاً. لم تقصِ حتى من خانة معيار النزاهة، فمدت يدها للكل، وبين هؤلاء من كانوا شركاء لموظفي النافعة المتورطين بقضايا الفساد.
كل ما هو مطلوب صالة انتظار مع حمام، وواحدة للتدريس مع أجهزة كومبيوتر، سيارات معدة للتدريب، مع تأمين المستندات القانونية. وهذا ما أمن أسبقية مجموعة مكاتب على زميلاتها، بعدما خضع أصحابها جميعهم لدورة تدريبية، وبعضهم من المخضرمين الذين هرموا في المصلحة.
“ظمت” الخريجون بيومي تدريب بينما مددت لزملائهم إلى أربعة. تعلموا خلالها “المعلوم” مع حصتي علم نفس “للتعاطي مع الحالات النفسية المختلفة”، ولا يزالون ينتظرون توقيع وزير الداخلية على قرارات تحول مكاتبهم إلى مدارس.
على خطى طالب رخصة السوق
على الرغم من تأخر وصول الرخصة، يسود الإطمئنان لدى أصحاب المكاتب إلى أنها آتية لا محالة. فالأولوية بالنسبة للإدارة هي تحريك عجلة كل الخدمات المقدمة، وعينها على ما يشكله هذا المرفق من مصدر دخل أساسي للخزينة. حتى لو أهملت حقوق المواطن بقيادة سليمة على طرقات تنتهك كل القوانين التي يُمتحن بها طالبو الرخص.
لذلك اتبعنا خطوات طالب رخصة السوق انطلاقاً من “المكاتب”- “المدارس” تحديداً، وذلك بعد اعتراضات سمعناها من شبان على تسعيرة شبه موحدة لرخص السوق الممنوحة حديثاً، والتي تبين أنها تتراوح في الدكوانة بين 400 و450 دولاراً. بينما هي تنخفض في مناطق الأطراف إلى 350 دولاراً
تغيب الشفافية في الأرقام التي تقدمها “المدارس”، فتكتفي بتحديد رسم مقطوع يتضمن كلفة سبع حصص من التدريب النظري والعملي ورسوم دفتر السوق، ولا تتضمن كلفة الصور الشمسية والإفادة الصحية المصدقة المطلوبة من ضمن مستندات الحصول على الرخصة أيضا. وهذا يعني أنه على التلميذ أن يصل “شوفيراً” إلى المدرسة، وإلا فإن كل حصة تدريس إضافية ستكبده 30 دولاراً إضافية.
غير أن نسخة عن تعميم موجه من هيئة إدارة السير إلى هذه المدارس يفصّل أرقام هذه الكلفة. فيتبين أن بدل ساعة التدريس العملي حدد بثلاثين دولاراً والمطلوب خمس ساعات، وبدل ساعة النظري بـ 20 دولاراً والمطلوب ساعتان، وهناك تكاليف إضافية أدرجت ضمن خانات الاختبار النظري والعملي للمتدرب قبل تسجيله في المدرسة، وبدل تجهيز الملف وتقديمه لحجز موعد الامتحان، وبدل استخدام سيارة المدرسة في الامتحان. وهذا ما يرفع قيمة البدلات التي ستتقاضاها “المدرسة” إلى 250 دولاراً، فيما لا يتخطى مجموع قيمة رسوم الرخصة المسددة للهيئة الـ 80 دولاراً. فمن أين أتت تسعيرة الـ 400 – 450 دولاراً؟
بحسب مصدر نقابي، “من حق المكاتب أن تفرض الرسوم التي تراها مناسبة، ومن حق المواطن أن يختار المدرسة التي تناسبه”. إلا أن توحيد السعر يبدو كاستراتيجية تسمح للمكاتب باحتكار الزبون، خصوصاً أنه بيدها منح إفادة “التدرب” وبالتالي تحديد مواعيد الامتحانات، وهذا ما يعطي الأولوية للمقتدرين مالياً، بينما على فئة الشباب الأكثر ضعفاً انتظار الدور بين الأرتال المتهافتة على “المكاتب”.
تحت طائلة تساوي إفادة التدريب مع الإفادة الصحية
ماذا عن منهج التدريس ومدربي “المدارس”؟ وما هي الضمانات بأن “إفادة التدريب” لن تتحول إلى نموذج آخر عن “الإفادة الصحية” التي تشكل نوعاً من التواطؤ بين المواطن والطبيب والهيئة المنظمة لعمل النافعة؟ فكلنا يدرك بأن الحصول على هذه الإفادة لا يتطلب حتى سؤالاً يوجهه طبيب النقابة عن صحة طالبها.
يستبعد أصحاب المدارس هذه الفوضى، أقله في المرحلة الحالية، لأن الكل تحت الرقابة وهناك سجلات مفتوحة. ويبدون صرامة في إخضاع التلاميذ لساعات الدوام. فما الذي سيتعلمه خلالها؟
يبادر أكثر من “مدير” للإجابة: “كومبيوتر وصف”. فماذا يقصد بذلك؟ المقصود بكلمة كومبيوتر “المنهج النظري” وبكلمة صف “التدريب العملي في موقع الامتحان حصراً. فالمنهج المقصود سيمرر بواسطة ملف pdf للمتدرب، يتضمن إشارات السير وبعض الأسئلة المرتبطة بقانون السير. وكل المطلوب من التلميذ الإجابة على 24 سؤالاً من 30 لاجتياز الاختبار النظري، بينما يحتاج في الاختبار العملي لمراكمة العلامات التي توضع على سؤال يطرح في الميدان تحت عنوان “دلني وخبرني”، يختبر معرفته بالسيارة، وبمصادر الخطر على السلامة المرورية، قبل أن ينطلق بقيادة السيارة في حلبة حُصرت ببضعة أمتار تتضمن مناورات الركن والالتفاف والخروج من المفرق والسير إلى الخلف. بينما توحي كلمات “start” “stop” و”finish” التي أضيفت إلى مسار امتحان الحلبة القديمة بنقلة عصرية في مفهومه.
لدى وصول السائق إلى الحلبة، سيخرج من سيارته أولاً لتفقد إطارات السيارة وغطاء المحرك وأضواء الإشارات، وينحني قليلا تحت السيارة ليتأكد أن ما من جسم حيّ تحتها. هذه الأمور التي تُدرس ضمن منهج “المدرسة”، يرتبط تطبيقها على واقع الأرض بممارسة ثواب وعقاب “قانون” غير مطبق عملياً، خصوصاً بسبب اختيار الهيئة لأسهل الطرق في تخطي أزمة “الكشف الميكانيكي” عبر إلغاء هذا الكشف، إنما من دون أن تتنازل عن رسوم الميكانيك وغرامات التأخير في دفعها. فهي تغذي الخزينة أيضاً بالمداخيل المطلوبة، من دون استخدام روافدها في إصلاح حفر الطرقات التي ستنهار معها الإطارات، أو حتى إجراء صيانة دورية لإشارات السير وغيرها من إشارات المنعطفات والتوقف والمنزلقات التي يمتحن بها السائق الجديد.
المدرب في القانون وفي الواقع
لم تنته قصة المنهج بعد ولكن فلننتقل إلى المدرب. إذ يفترض بحسب القانون أن يكون حائزاً شهادة امتياز فني أو ما يعادلها في اختصاص مرور صادرة عن المديرية العامة للتعليم المهني والتقني. ويتطلب أن يكون المدرب خاضعاً لامتحان كفاءة يجريه المجلس الوطني للسلامة المرورية، على ألا يمارس مهنته إلا بعد مرحلة تدريبية تمتد ثلاث سنوات. إلا أن المفارقة أن هذا الاختصاص المستحدث يعاني الفوضى والإهمال منذ سنة 2017. بحسب مصدر مطلع لا يوجد أساتذة معينون حديثاً في المعهد، والشهادات منحت من دون حضور حصص التعليم منذ جائحة كورونا، فسمي هؤلاء مدربون حتى من دون أن يخضع أي منهم لامتحان الكفاءة المطلوب. علماً أن منهج هذا الاختصاص وفقا للمادة 237 من القانون يحدد بقرار من مدير عام التعليم المهني، بعد موافقة اللجنة الوطنية للسلامة المرورية. وهذه اللجنة لم تجتمع منذ ست سنوات مع أنها المعنية بتحديد كل مناهج التدريب، وأيضاً معايير ومؤهلات فاحصي السوق، وامتحانات تأهيلهم وفقاً للمادة 216 من القانون. مما يعني أن لا منهج متفقاً عليه من قبل اللجنة حتى للمتقدمين للحصول على الرخصة. فهل يعود مستغرباً أن نسمع من أرباب المصلحة أنفسهم عن مكاتب سوق لا تزال تستخدم مدربين، بعضهم لا يملك حتى رخصة سوق؟
إهمال للقانون في تدريب اللجان الفاحصة
يعتبر رئيس المرصد اللبناني للسلامة المرورية ميشال مطران أن كل ما يحصل في “النافعة” وخارجها لجهة آليات ومضمون طريقة منح رخصة السوق، هو مخالف لقانون السير اللبناني وللمعايير العالمية. علماً أن المرصد دعا الجمعيات والهيئات المعنية بالسلامة المرورية إلى اجتماع خرج ببيان موحد سجل اعتراضاً على مجمل المسار المعتمد في فحوصات السوق، داعياً إلى الالتزام بقرار اللجنة الوطنية للسلامة المرورية الصادر منذ العام 2018 والمتعلق بمناهج تعليم السوق وتأهيل المدربين.
إلا أنه لا آذان صاغية لهذه التحذيرات. والمسيرة مستمرة في تخريج أعداد جديدة من تلاميذ “مدارس قيادة السيارات”، بعدما تبدلت اللجان الفاحصة في جميع المناطق. عوقب الصالح مع الطالح هنا، وبتنا أمام مجموعة جديدة من اللجان التي عينت من بين العسكريين المتقاعدين، والتي ستختبر “ذمتها” مع مرور الأيام ودخول دوائر النافعة في الروتين. أما المفارقة هنا فهي في جعل مكاتب السوق شريكة عبر نقابتها في تدريب أعضاء اللجان الفاحصة، وهذا وفقاً لمصدر مطلع يتخطى الروحية التي انطلق منها قانون السير، والذي اشترط إخضاع أصحاب المكاتب بدءاً من نقيبهم لدورات تدريبية على مناهج رصينة للقيادة. فكيف أصبح من اعتبر غير كفوء ويحتاج لإعادة تأهيل مدرباً لمن سيحكمون على أداء السائق في حلبة الإمتحان؟
بحسب مصدر مطلع أهملت التدريبات التي تلقتها اللجان الفاحصة أيضاً نص المادة 217 من القانون، الذي تحدث عن إنشاء معهد متخصص بتدريب خبراء السير واللجان الفاحصة. فتخرج هؤلاء من معهد قوى الأمن الذي نشأ لأهداف مختلفة، في ظل إمعان بتجاهل المعايير، يترك مؤشرات غير واضحة حول سير المعنيين فعلياً بالخطوات الإصلاحية التي وعدوا بها.
كل هذه الانطباعات تسود في أوساط المتقدمين للحصول على رخص السير لأول مرة كما لدى ذويهم. التقينا عدداً من هؤلاء على قارعة الرصيف قرب مركز النافعة في الدكوانة من خلف سيارات احتلت أجزاء من الطريق العام في صفين من مخالفات الركن، فحشر صف السيارات الأول وراء من خالفوا القانون ومشوا. فبدا هذا المشهد سريالياً أمام المركز الرئيسي لهيئة يفترض أنها تحضن كل خدمات قوننة قطاع السير في لبنان. ومع ذلك بقي الرأي السائد في المحيط منقسماً بين من اعتبر أن التعديلات التي سرت في آلية منح الرخص جيدة وترفع من مستوى القيادة، وبين من عوّل على بعض ضمير يتغلب على الذهنيات الانتفاعية السائدة بإدارة هذا المرفق عموماً، ويجهض كل محاولة للإحتماء بالقانون كمظلة لتحقيق المصالح الخاصة.