الـ”كيا” سيدة الساحة… وأوعا الزيح
في بلدان العالم هي شهادة محترمة تؤهّل صاحبها للقيادة على الطرقات العامة بمسؤوليةٍ تحفظ سلامته وسلامة الاخرين. وفي لبنان هي بطاقة فولكلورية تجعل حاملها يقوم بعنترياته على الطرقات تحت نظر القانون وحمايته من دون أي تأهيل يذكر. إنها رخصة القيادة او باللبناني “دفتر السواقة” الاستحقاق الإجباري الذي تقطع به كل عائلة لبنانية أتم أبناؤها الثامنة عشرة من عمرهم. أما كيف يتم الحصول عليه فتلك قصة مختلفة تتأرجح بين المضحك او المبكي.
ما ان يبلغوا الثامنة عشرة من أعمارهم حتى يستميت شبابنا للحصول على ” دفتر السواقة” او تلك البطاقة السحرية التي تنقلهم من عالم الطفولة الى جنة البالغين. سواء كانوا يلمّون ببعض مبادئ القيادة او لم يتعلموها بعد، يضعون نصب اعينهم هدف الحصول على “الدفتر” بالطريقة العادية او بصفة الاستعجال. “النافعة” هي الاسم البرّاق الذي يتعرفون اليه في بداية المغامرة ثم يبدأ البحث عن مكتب يتولى مهمة تدريبهم، لا على القيادة بالطبع، بل على عبور امتحان السواقة بنجاح.
سجل عدلي، إفادة سكن واستمارة طبية تحصل عليها فارغة من نقابة الأطباء لقاء مبلغ 30 ألف ليرة ( تبدو كتنفيعة) ويتولى طبيب ملأها… هي الأوراق المطلوبة للتقدم الى امتحان السواقة. فالشهادة الصحية تؤكد افتراضياً (ولو من دون فحص) سلامة المتقدم البدنية والعقلية وصحة بصره وبصيرته.
من الساحة الخارجية للنافعة ينطلق المشوار. سيارات Kia Picanto صغيرة الحجم مزودة بمقودين يجلس المتعلم خلف أحدهما و”المعلم” خلف الثاني. غير أوتوماتيكية بالطبع، فهذه غير مسموحة لا في التعليم ولا اثناء الامتحان، لكن رغم كونها “فيتاس” فإن آلية التعشيق فيها مختصرة الى أبعد حد، تتيح التقدم الى الأمام والرجوع الى الخلف فقط، لا لسبب محدد إلا لأن المسافة القصيرة جداً في الساحة لا تسمح بتغيير الفيتاس.
المسار محدد في الساحة الفارغة: بضعة أمتار يتقدم فيها التلميذ الى الأمام بالسيارة بين خطين متوازيين ثم يرجعها الى الخلف بين الخطين نفسيهما ويلتف وصولاً الى نقطة الانطلاق.هكذا يستمر التقدم والتراجع، أو الكر والفر بلغة اليوم، حتى انتهاء ساعة الدرس. والسيارة التي يفترض ان تثب الى الأمام حين يلقي المتعلم بقدمه على دواسة البنزين تجدها “ثقيلة الهمة” بالكاد تقلّع. فالمسكينة قد تم كبح جماحها رغماً عنها وحُشرت لها قطعة خشبية صغيرة تحت دواسة البنزين تمنع القدم من الاسترسال نزولاً وتهدئ من انطلاقة السيارة وهو أمر يبرره المختصون بأنه لدواعي السلامة ومن باب الاحتياط والخشية من دعسة ناقصة (او زائدة) ليست في الحسبان. ولكن ما تفتقده السيارة من قوة البنزين تعوضه في الـ avance الذي تتم تقويته حتى لا تنطفئ تكراراً رغم تأكيد الجميع ان لا تعديل يذكر على السيارات.
الصفّة ماجستير القيادة
بعد حصتين او ثلاث ينتقل المتعلم الى مرحلة أشد صعوبة يحرص الأستاذ على تدريبه عليها مراراً و تكراراً كونها الاستحقاق الأصعب عند الامتحان. إنها “الصفّة” او ركن السيارة بين عمودين مستقيمين على طرف الساحة. فيتقدم التلميذ بسيارته المكبوحة الى الأمام ويلتف الى الخلف ويتلوى مع سيارته ليحشر نفسه بين العمودين. المحاولات الأولى لا تنجح حكماً، فالصفّة هي الماجستير في القيادة لا يدركها إلا من كان أهلاً لها. وهكذا تتكرر محاولات التلميذ حصة بعد حصة حتى يتمكن أخيراً من الاصطفاف بين العمودين من دون أن يمس أياً منهما من الأمام أو من الخلف تحت أنظار أهله الواقفين يراقبون عن كثب ولادة ” شوفير” أمام أعينهم. عند هذه المرحلة يكون قد صار جاهزاً للامتحان، حتى ولو لم يكن قد رأى بعد سيارة تسير بجانبه، او اضطر لاستعمال الزمور او حتى تشغيل المساحات أو إضاءة المصابيح.
يوم الامتحان يوم مصيري بالنسبة إلى الشاب او الصبية، وغالباً ما يعين في ساعات الصباح الأولى فيضطر الشباب للاستيقاظ فجراً على غير عادتهم ليكونوا عند باب النافعة قبل السادسة. المرحلة الأولى هي الإجابة تحت عين الكاميرا المصوبة نحوه على الاسئلة النظرية على الكمبيوتر التي يكون قد تعلمها وحفظها في البيت، هذا إن كان يفهم مفرداتها وتعابيرها باللغة العربية. فالقاطر والمقطور والترس المرتفع او المنخفض تحديات لغوية تفوق القيادة صعوبة بالنسبة اليه.
بعد ضمان نيله المعدل المطلوب في الامتحان النظري ينتقل الشاب او الصبية الى المرحلة العملية أمام أنظار لجنة فاحصة مؤلفة من ثلاثة موظفين من مصلحة السير لا يقبلون مطلقاً أية واسطة حسبما يؤكد السيد ميشال كرم صاحب الخبرة الطويلة في تدريب الشباب على السواقة. بل إنهم يطفئون أجهزتهم الخلوية و يتمعنون في مراقبة سيارة التلميذ المتقدم الى الامتحان. فإن انطفأت سيارته ( رغم الـ avance المقوى) أو لامس دولابها الخط الأصفر او قبّل رفرافها عمود “الصفّة” او إذا نسي التلميذ في فورة حماسه او ارتباكه المفاتيح فيها… يكون قد رسب في امتحانه و تأجل حلمه الى ما بعد 15 يوماً ليحق له التقدم من جديد.
فالرسوب في الامتحان العملي يعطيه الحق بمعاودة المحاولة بعد تعيين فحص جديد له بعد 15 يوماَ على الأقل. أما الرسوب في اسئلة الامتحان النظري فيقطع عليه الطريق من بدايتها ولا يسمح له بالتقدم الى الامتحان العملي إلا بعد ان يجتاز الأول مرة ثانية بنجاح.
أما سعداء الحظ الذين تحدوا الخطوط الصفر والحمر وواجهوا الاعمدة بنجاح فيحصلون على دفترهم في اليوم التالي ويصبح من حقهم “شرعا” القيادة على الطرقات العامة والفرعية في الزواريب والأزقة تحت غطاء القانون.
عشر ساعات في ساحة مقفلة فارغة لا أثر فيها لسيارة، ويصبح شبابنا قادرين على تولي مسؤولية سيارة يقودونها وسط الناس على طرقات تشهد نسبة مخيفة من حوادث السير القاتلة.
يخبرنا ميشال كرم أن صبية اصطدمت مرة بسيارة كانت مقبلة نحوها يقودها رجل ستيني فنزلت تعتذر منه قائلة “sorry عمو كانت الشمس بوجهي” فضحك الرجل قائلاً” الهيئة عمو عاطينيك الدفتر بالفي…” كذلك سألته إحدى الأمهات مرة إن كان يستطيع أن يمرّن ابنتها مساء حتى تتعود على القيادة في الليل فأجابها ضاحكاً” شو عازمها على نايت او عم علمها السواقة” اما حين سأله والد كيف سيتمرن ابنه على السواقة اثناء المطر أجابه ” برشلّو الأرض مي بالنبريش حتى يتمرن”. فالصيف والشتاء على سطح واحد بالنسبة لدفتر السواقة وكذلك الفي والشمس والضوء والعتمة… و خلف هذا الواقع الضاحك تختبئ مقولة مبكية: الدفتر في الجيب والسواقة في عالم الغيب.
قانون على الورق
هذه اللوحة السوريالية لامتحان القيادة في لبنان ينقضها السيد شكرالله نصر الضليع في شؤون السير وقوانينه بعد خبرة ودراسة مديدتين إذ يشرح لنا بإسهاب فلسفة هذا القانون والمقاصد من كل بند من بنوده في ما يتعلق بامتحان السواقة والتمرن على القيادة.
العام 2012 يقول نصر صدر قانون السير الجديد تحت الرقم 243 وهو قانون ممتاز ببنوده إذا ما طبقت، لكن مثل كل شيء في لبنان لم يطبق منه إلا ما يتعلق بتحصيل غرامات السير ومخالفات السرعة وحزام الامان ومطفأة الحريق وغيرها مما يدخل الأموال الى جيوب الدولة، اما ما يختص بسلامة المرور ومواصفات الطرقات وغيرها مما يحمي السائق والناس على الطرقات فلم يطبق منه شيئاً. حتى تحصيل الغرامات يبقى موسمياً ويخضع لهمروجات تفور وتخمد بعد حين.
فرض قانون السير الجديد على كل من يود الحصول على رخصة قيادة ان يخضع لامتحان نظري عبر الكمبيوتر وآخر عملي. و يهدف الجزء النظري الذي وضع قيد التنفيذ العام 2017 اي بعد خمس سنوات على وضع قانون السير الجديد، الى تعليم المتمرن كل ما يتعلق بإشارات السير ومعانيها وقواعد استخدام الطرقات والمرور عليها إضافة الى معلومات اساسية تتعلق بميكانيك السيارة مثل المكابح والإضاءة وغيرها. ويحوي الكتيب الذي يتم توزيعه على المتعلمين 300 سؤال تشمل كل ما ذكر سابقاً مع 3 احتمالات للإجابة عن كل سؤال. وتحوي الأسئلة كلمات تقنية مختصة ومعلومات قانونية دقيقة لا بد ان يتمرن عليها التلميذ مع شخص متمرس يتمتع بالمستوى المهني والدراسي المطلوب ليعطيه الإرشادات والمعلومات الضرورية. من هنا أهمية اللجوء الى مدارس سوق متخصصة ومرخصة، فالقانون الجديد لم يعد يسمح بإعطاء رخصة لمدرسة سواقة إلا للشخص الحائز على شهادة امتياز فني اختصاص مرور درسها لمدة سنتين ثم تدرج لمدة 3 سنوات واكتسب الخبرة الضرورية ليحق له ان يفتح مدرسة.
أما بالنسبة الى الشق العملي من امتحان القيادة فهو يتبع مساراً محدداً في النافعة تم وضعه من قبل هيئة إدارة السير التي يشرف عليها المجلس الوطني للسلامة المرورية الذي يرأسه رئيس مجلس الوزراء ويضم وزراء العدل، الداخلية، النقل والتعليم العالي. ويقضي المسار المعتمد بالتقدم الى الأمام، ركن السيارة، الخروج من الصفة والرجعة الى الخلف وبهذا يُظهر المتعلم انه قادر على التحكم بالسيارة والسيطرة عليها والتحكم باتجاهها وعكسه وهو ما يعتبر مرحلة تأسيسية تكفي، مع المعلومات التي اكتسبها المتمرن، للحصول على رخصة القيادة.
ثغرة قانونية بين النافعة والطرقات غير النافعة
ولكن إذا كانت هذه المرحلة كفيلة بمنحه الرخصة فهل هي كافية لجعله قادراً على القيادة على الطرقات وسط السيارات؟ وهل يمكن لخشبة تحت دواسة البنزين او عمودين بلاستيكيين أن يشكلا ضمانة له تحميه من أخطار السيارة الفعلية وتحفظ له سلامته وسلامة سواه؟
بالطبع لا يجيب السيد نصر ولا بد بعد المرحلة التاسيسية من الانتقال الى المرحلة الثانية بعد ان يكون المتدرب قد حاز دفتره. هذه المرحلة هي من مسؤولية الأهل او المتمرن نفسه إذ لا يعود ملتزماً بالمكتب لكنه بحاجة الى ما بين 20 الى 30 ساعة تدريب على الطرقات ليصبح قادراً على القيادة وحده. خلالها يتعلم جميع المناورات على الطرقات مثل التعاطي مع باقي السيارات، الخروج من المفارق والمسارب، التباطؤ والتسارع استخدام التقاطعات والمستديرات، السير وسط الطرقات العامة والسير الكثيف وما الى ذلك. والأفضل هنا أن يكون الى جانبه شخص متمرس خبير يلفت نظره الى كل ما يمكن ان يواجهه خلال القيادة.
ويعتبر غياب الإلزامية في هذا المرحلة نقطة ضعف اساسية في قانون السير الذي يلقي بالمسؤولية على عاتق المتعلم وأهله بدل التشدد في فرض ساعات تدريب إلزامية على الطرقات برفقة مدرب مسؤول تتيح للمتمرن الحصول على إفادة تعليم تخوله خوض غمار الطرقات بثقة ومسؤولية.
في الختام يبقى أن نقول إنه في ظل ثغرة مخيفة في القانون، وفي ظل تباعد واسع بين ساحة النافعة وطرقاتنا غير النافعة لا بد ان يتمتع الأهل بالوعي الكافي ليتأكدوا من كفاءة ولدهم وامتلاكه المهارات اللازمة قبل تسليمه عجلة القيادة ومنحه سيارة قد تكون قنبلة موقوتة لا سمح الله.
بين سويسرا الشرق وسويسرا الغرب
يعتبر الحصول على رخصة قيادة في سويسرا من الأصعب والأكثر تطلبا في العالم أجمع. فقبل أن يستلم المتمرن رخصته عليه المرور بسلسلة طويلة ومعقدة من الإجراءات تبدأ بزيارة طبيب العيون للتأكد من سلامة النظر ثم الخضوع لدورة اسعافات أولية وبعدها متابعة دورة لغرس روح المسؤولية واحترام البيئة في نفس سائقي المستقبل، يليها النجاح في اختبار نظري حول معرفة قواعد المرور. بعدها يصبح مرشحاً لنيل رخصة قيادة. وهنا تأتي المرحلة الثانية التي تمتد على مدى عامين يمكن فيها للمتمرن ان يقود على الطرقات الفرعية برفقة شخص مسؤول قد يكون من العائلة او مختصاً بالتدريب. بعد 100 ساعة من التمرين يصبح جاهزاً للامتحان فإذا تخطاه بنجاح ينال الرخصة لفترة تجريبية تمتد على مدى ثلاث سنوات عليه ان يثبت خلالها انه أهل للقيادة فلا يرتكب مخالفات متكررة او خطيرة ويتبع القوانين. وحينها فقط يصبح أهلاً للحصول على رخصة دائمة.