Site icon IMLebanon

الترسيم البحري والتصعيد الجوي

 

 

من المفترض ان يكون الشرق الاوسط على مسافة زمنية تُقاس بأيام من موعد الإعلان عن عودة العمل بالاتفاق النووي الإيراني. فحتى رئيس الحكومة الاسرائيلي نفتالي بينيت أبلغ وزراءه عن ذلك. لكن الأزمة الأخيرة التي نشبت حول اوكرانيا، جعلت البعض يعيد حساباته حول احتمال ان تؤثر سلباً على إعلان العودة الى الاتفاق النووي.

لكن مصادر ديبلوماسية اميركية لا تعتقد ذلك، لا بل هي ترى عكس ذلك، انّ تدحرج الأزمة الأوكرانية الى الاسوأ سيؤدي الى انشغال اميركي كامل في الوضع الاوروبي، ما سيعني في حال عدم التوقيع على الاتفاق، فتح نافذة ستستغلها اسرائيل للقيام بخطوة مجنونة باتجاه ايران، مستغلة الانشغال الاميركي، وبالتالي دفع الوضع في الشرق الاوسط الى فوضى شاملة، تعتقد اسرائيل انّها ستكون في صالحها، خصوصاً بعد اتفاقات التطبيع التي وقّعتها وجعلتها في قلب الخليج العربي.

في أي حال، لا تزال روسيا ترفض الكلام عن اندلاع حرب واسعة في اوكرانيا. والانطباع الغالب لا يزال حول ضغط روسي بهدف تحقيق الحدّ الأقصى من المكاسب وإعادة رسم توازنات جديدة في اوروبا، تجعل من روسيا لاعباً رئيسياً في مقابل اللاعب الاميركي. ولكن المراقبين لا يستبعدون اندلاع مواجهات بالواسطة بين الجيش الاوكراني والقوى المعارضة له والمدعومة من روسيا، رغم انّ الاقتصاد الروسي لا يسمح بالذهاب بعيداً في مواجهات مكلفة.

ويحلو للبعض العودة الى أزمة الصواريخ الكوبية، والتي اندلعت في العام 1962 في عزّ الحرب الباردة بين الولايات المتحدة الاميركية والاتحاد السوفياتي. يومها نُقل عن الرئيس الاميركي جون كينيدي قوله، انّ الدرس الرئيسي الذي يمكن استخلاصه من الأزمة، بأنّ قادة القوى النووية العظمى بحاجة الى نزع فتيل الأزمات من خلال مساعدة بعضهم البعض على ابتكار حلول وسط متبادلة بين الطرفين تحفظ ماء الوجه لكليهما. وهذا المبدأ هو الذي أنتج يومها الحل المعقول لأزمة صواريخ كوبا.

في الواقع، الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يضغط بقوة، لإدراكه انّ الوقت الحالي هو مثالي لانتزاع اكبر قدر من المكاسب من الرئيس الاميركي جو بايدن، الذي يبدو انّه يعيش مرحلة ضعف داخلي. ففي آخر استطلاعات الرأي والتي أُجريت في 15 شباط، تبين انّ 55% من الناخبين الاميركيين يفضّلون المرشحين الجمهوريين على المرشحين الديموقراطيين الذين نالوا فقط 42%. وهذا ما يعني انّ الحزب الديموقراطي يتحضّر لخسارة مدوية في الانتخابات النصفية بعد اقل من 9 اشهر. لا بل فإنّ الاستطلاع كشف عمّا هو أكثر قساوة، حيث لا توافق نسبة 53% من الاميركيين أداء بايدن كرئيس، والأهم انّه في 46 ولاية اميركية نال بايدن أقل من 40% من التأييد، وفي الولايات التي تُصنّف ولايات متأرجحة، جاءت نسبة التأييد فقط 30%، الّا انّ التدهور في شعبية بايدن لم يصبّ في مصلحة الرئيس السابق دونالد ترامب، الذي تبيّن انّ نسبة 65% من البالغين لا يريدونه ان يترشح للرئاسة مرة جديدة. كما انّ نسبة 29% من الذين صوّتوا لترامب عام 2020 لا يريدون ترشحه مرة اخرى. لكن الواقع الداخلي الصعب الذي يمرّ فيه بايدن قد لا يدفعه للتنازل في اوكرانيا وبالتالي في اوروبا. فصحيح انّ المصطلح الشائع اميركياً عن اوروبا هو وصفها بالقارة العجوز، الّا انّ واشنطن تدرك جيدا بأنّ تسيّدها للقرار العالمي يرتكز على ثلاث مناطق استراتيجية في العالم، وهي إضافة الى اوروبا، الخليج والصين. وهذا معناه ايضاً انّه في ظلّ إصرار بوتين، وعدم قدرة بايدن على التراجع ولو قيد أنملة في الوقت الحالي، من المرجح ان تستمر أزمة اوكرانيا لفترة طويلة، وسط مناوشات او ربما مواجهات بين الجيش الاوكراني والمجموعات الموالية لروسيا، ربما بانتظار تسوية كبرى مع روسيا ستشمل الشرق الاوسط، وهنا بيت القصيد.

فإقفال الملف النووي الايراني قريباً سيمنح إدارة بايدن نقاطاً ثمينة، وسيسمح لها بإعادة اطلاق عناوين سياسية جديدة لحملة الحزب الديموقراطي للانتخابات النصفية. وهو في الوقت نفسه سيفتح الباب امام ملف الغاز شرقي البحر الابيض المتوسط، وتثبيت خط نقله الى اوروبا، وهذا ما تؤيّده اسرائيل بقوة، اولاً بسبب المدخول المالي الكبير لها، وثانياً لأنّه سيجعلها اكثر فأكثر جسماً طبيعياً وسط دول المنطقة، من خلال المادة الحيوية الأهم في المنطقة والعالم.

وليس من باب المصادفة ان ينظّم الرئيس الاسرائيلي زيارة قريباً الى قبرص واليونان وتركيا. هو خط الغاز في الواقع، خصوصاً انّ عودة العلاقات القوية بين اسرائيل وتركيا منذ العام 2010، تعني الكثير، ليس فقط بسبب خط الغاز وضمان مروره، وانما ايضاً لأنّه سيفتح باب الترجمة والتعاون السياسي، في وقت تسعى فيه تركيا الى فرض نفسها لاعباً اقليمياً أساسياً في شمال تركيا والعراق.

من هنا الضغط الاميركي الهائل الذي رافق التفاهم مع لبنان حول ترسيم الحدود البحرية، وبالتالي فتح الأبواب أمام الشركات الكبرى للبدء بعمليات الاستكشاف والتنقيب. لذلك تردّد كثيراً انّ التقدّم الذي حصل في هذا الملف جاء بموازاة المفاوضات التي كانت تدور حول الملف النووي الايراني، والتي كانت شارفت على نهايتها. ومن هنا يمكن استنتاج الأسباب التي دفعت بالمفاوض الاميركي عاموس هوكشتاين الى تأجيل موعد زيارته الى لبنان مرات عدة.

في الواقع، كان يتطلع الى ساعة المفاوضات النووية لاجتراح التوقيت الملائم والناجح لمهمّته في بيروت.

و«حزب الله» الذي يتحضّر لمفاوضات صعبة وحاسمة ومهمّة حول «عقد اجتماعي» جديد في لبنان، كما وعد الرئيس الفرنسي، قد يكون رغب في تأجيل موعد التفاهم البحري إلى موعد لاحق، للتسلّح بأوراق تفاوض قوية.

لكن هناك وقت سيستغرقه ملف الترسيم البحري قبل إقراره. فهنالك مجلس الوزراء وخصوصاً مجلس النواب. وهو ما يعني الوقت الكافي لكي يتسلّح «حزب الله» ولو بجانب من هذه الورقة، أي لما بعد الانتخابات النيابية.

والترسيم البحري سيعني بطريقة او بأخرى انّه لن تحصل مواجهات عسكرية او حروب بحرية على الاقل في المستقبل، رغم انّ «حزب الله» كان قد تحدث مراراً في السابق عن تعزيز قوته البحرية خصوصاً الصاروخية منها. وبالتالي، فإنّ خطاب السيد حسن نصرالله، ونجاح الطائرة المسيّرة لـ«حزب الله» من خرق اجواء فلسطين المحتلة، ونشر الشريط المصور حول القوة القتالية للحزب على الثلج، كل ذلك كان يهدف للقول انّ قوة «حزب الله» لا تزال موجودة، وانّها قادرة وبقوة خارج الإطار البحري.

صحيفة «هآرتس» نقلت عن مصادر أمنية اسرائيلية وصفتها بالرفيعة، اعترافها بأنّ اسرائيل تواجه صعوبة في تثبيت معادلة صحيحة في لبنان من دون الانزلاق باتجاه الحرب. وأضافت الصحيفة نقلاً عن المصادر عينها، بأنّ اسرائيل تبحث طوال الوقت عن طريقة لاستهداف وتقويض تعاظم قوة «حزب الله» في لبنان. واعترفت هذه المصادر، انّ الأوضاع تعمل في هذه المرحلة لصالح «حزب الله». لكنها اضافت، أنّ ذلك لن يستمر طويلاً.

بالتأكيد هذه المصادر لم تكن تعني بأنّ الحرب العسكرية هي الحل. ربما كانت تلمّح الى المفاوضات حول ساحات المنطقة، بعد الإعلان عن الاتفاق النووي. مفاوضات ستتولّى رسم الخارطة السياسية الجديدة للمنطقة، والتي ستشمل لبنان بطبيعة الحال، على ان تبدأ من خلال العراق وسوريا. وهذا يعني انّ الملف السوري المعقّد والمتشابك موجودة فيه روسيا بقوة، وهذا ما يعيدنا الى ملف اوكرانيا ودول شرق اوروبا، والتسوية الكبرى التي تشمل في العادة مقايضات وتبادل خدمات بين اوروبا والشرق الاوسط.