الرسالة الأولى لجولة «هدهد» حزب الله في منطقة حيفا أنه حقّق إنجازاً معلوماتياً غير مسبوق في تاريخ الصراع مع إسرائيل. فللمرة الأولى ينجح طرف عربي في تنفيذ مسح معلوماتي للمنشآت العسكرية والصناعية في منطقة حيفا والكريوت، وفي تجاوز منظومات الكشف الراداري الأكثر تطوراً، واختراق منظومات الدفاع الجوي.الحدث إنجاز معلوماتي مركّب في عناصره وأدواته وأبعاده. فهو مسح معلوماتي جوي، واختراق لأجهزة الكشف والاعتراض، ويؤشر إلى أجهزة وأدوات أكثر تعقيداً كان لها دور في تحقيق هذا الإنجاز. لذلك، فإن ما لا يقلّ خطورة عن الرسائل الكامنة في هذا الإنجاز المعلوماتي هو تمكّن حزب الله من تحديد هوية كل منشأة ودورها ومكانها. وبذلك تكتمل الدائرة المعلوماتية التي توفّر الأهداف المطلوبة للأسلحة الدقيقة المناسبة. وعليه، إذا ما كان هذا الحدث إنجازاً تكتيكياً نوعياً، فهو أيضاً جزء من نشاط عملياتي أوسع، ذو أبعاد إستراتيجية، ويمكن توظيفه ردعياً وعملياتياً وسياسياً وإستراتيجياً.
من الواضح أن قرار حزب الله الكشف عن بعض ما لديه كان هادفاً في سياقه وتوقيته، وموجَّهاً بالدرجة الأولى إلى مؤسسة القرار في كيان العدو وراعيه الأميركي، وإلى الأطراف كافة التي تتأثر بهذا الحدث – الإنجاز، سلباً أو إيجاباً. فقد أظهرت الدقائق التسع والنصف دقيقة تطوراً معلوماتياً نوعياً لدى حزب الله يواكب تطوّر الحروب التي من أهم مزايا «نسختها» الجديدة اعتمادها الرئيسي على المعلومات.
ففي مقابل ما يتمتع به العدو من تفوّق استخباراتي وعملياتي، تشكّل المعلومات أحد أهم شروط الصمود والانتصار عليه. وبقدر ما تكون المعلومات واسعة وشاملة ودقيقة، بقدر ما تتوافر القدرة العملياتية على استغلال نقاط ضعفه عبر إستراتيجية تضبط الأداء العملياتي والتكتيكي. وبذلك، يتكامل التطور المعلوماتي مع تطوّر قدرات حزب الله الدقيقة. وبحسب رئيس مجلس الأمن القومي السابق اللواء غيورا إيلند، لقد «أغلق حزب الله، بدعم إيران، الفجوة مع إسرائيل في أمرين اثنين: الصواريخ الدقيقة والمسيّرات»، في إشارة إلى تقلّص الهوة النوعية، وهو ما سبق أن حذَّرت منه الاستخبارات العسكرية قبل سنوات. غير أن ما تم الكشف عنه حتى الآن فاق تصوراتهم.
النتيجة المباشرة لهذا الكشف أنه سيُغيِّر تقديرات مؤسسات العدو لطبيعة الخسائر وحجمها التي سيتلقاها في حال ارتكاب حماقة الاتخاذ لقرار بشن حرب واسعة على لبنان. ومع أن ما تم كشفه ليس سوى حلقة أولى، إلا أنه كافٍ لتقديم عيّنة عما ستواجهه إسرائيل خلال الحرب وما ستكون عليه بعدها. وهو أمر سيكون حاضراً على طاولة التقدير والقرار، من بوابة معادلة الكلفة والجدوى التي تحكم أي قرار عدواني وعملياتي يتخذه العدو.
أتى هذا الكشف المعلوماتي بعد سلسلة تهديدات إسرائيلية، وبالتزامن مع زيارة الموفد الأميركي الخاص عاموس هوكشتين، وفي مرحلة حساسة بلغتها الحرب في لبنان وغزة. وبذلك يكون هذا الكشف بمنزلة إفهام للعدو ما يجب أن يفهمه، وإفهام «الضيف» الأميركي أيضاً بأن خيارات لبنان والمقاومة ليست محدودة في مواجهة تهديدات العدو. ومنعاً للالتباس في فهم المستهدفين بالرسالة ومحاولة تقليص هامش أخطائهم المتكررة في التقدير، قدَّم حزب الله دليلاً ملموساً لهم بأن المقاومة قادرة على إلحاق أضرار جدية جداً بالبنية التحتية الصناعية والاقتصادية والمنشآت العسكرية. ولذلك، إن من عليه أن يقلق أيضاً هو العدو، فيما موقف لبنان في المفاوضات التي يجريها المسؤولون الرسميون ليس ضعيفاً، خصوصاً أن المفاوضات في جوهرها ليست محاججة منطقية، وإنما حسن توظيف أوراق القوة في مواجهة قوة العدو.
على المستوى العملياتي، أصبح واضحاً للعدو أن لدى حزب الله بنك أهداف نوعياً واسعاً جداً، يوفّر له مروحة خيارات للرد على أي مستوى من مستويات التصعيد الإسرائيلي بما يمكّنه من كبح عدوانه وتعزيز ردعه.
يتكامل التطور المعلوماتي لدى حزب الله مع تطوّر قدراته الدقيقة
مع ذلك، لا تكتمل معالم الحدث من دون الإشارة إلى الإرباك الذي تسبب فيه هذا الكشف المعلوماتي لجيش العدو، وبرز ذلك عبر تبريره بأن الجيش كشف المسيّرة ولم يسقطها لعدم إثارة الهلع! محاولاً الإيحاء بأن هذا الأمر حصل لمرة واحدة، ولكن كيف سيُفسر ما سيلي من كشف على هذا الصعيد؟ ولماذا لم يُسقط الجيش المسيّرة في طريق العودة عبر البحر أو في مناطق مفتوحة عندما أصبحت فوق المناطق التي تشكّل ساحة مواجهة بين مسيّرات حزب الله ومنظومات الاعتراض الإسرائيلية؟
من الواضح أن المحاولة الفاشلة لاحتواء مفاعيل إنجاز المقاومة وأثره السلبي على معنويات الجمهور الإسرائيلي الذي اكتشف أنه عارٍ أمام أسلحة المقاومة، تؤشر إلى حال التردي التي انحدر إليها جيش العدو. وفيما كان عليه أن ينتظر الحلقة أو الحلقات التي تلي، كما ورد في الفيديو الذي نشره الإعلام الحربي، إلا أنه يبدو أن ضغط الحدث فرض عليه المعالجة بما توافر.
في كل الأحوال، الرسالة وصلت إلى حيث ينبغي أن تصل. وما أرادته المقاومة قد تحقق. وإذا ما كان الجيش قد حاول التخفيف من وطأة الحدث أمام الجمهور الإسرائيلي، فإن ذلك لا يغيّر من مفاعيل الحدث في الغرف المغلقة ولدى مناقشة الخيارات وتقدير المخاطر الذي سيخضع لعمليات تحديث على وقع إنجاز المقاومة التي ينتظر جمهورها المزيد منها في قادم الأيام.