لا تُقرأ رسالة رئيس الجمهورية الى المجلس النيابي، التي ورد فيها حرفياً: «يقتضي تفسير المادة 95 من الدستور معطوفة على الفقرة «ي» من مقدّمته، وفقاً لقواعد التفسير الدستوري، وذلك حفاظاً على ميثاقنا ووفاقنا الوطني وعيشنا المشترك، وهي مرتكزات كيانية لوجود لبنان وتسمو فوق كل إعتبار»، إلا كردّ تصعيدي على توقيع قانون الموازنة تطبيقاً للمادة 56 من الدستور بالرغم من الإعتراض على المادة 80 منه، المتعلّقة بحفظ حق مواطنين لبنانيين نجحوا في اختبارات أجراها مجلس الخدمة المدنيّة. وكذلك لا يمكن أن تُقرأ من باب الحرص على العيش المشترك، وهي لا تنساب أو تتماهى في مسار أضحى مألوفاً عنوانه «توسيع صلاحيات الرئيس بتكريس أعراف جديدة في الممارسة السياسية»، بل إنّ مضمون الرسالة القاضي بتفسير المادة 95 من الدستور هو دعوة صريحة لتعديل الدستور، وهو بهذا المعنى التفاف على صلاحيات المجلس النيابي والحكومة في آنٍ واحد المكرّستين في المادتين 76 و77 من الدستور. فالتعديل الدستوري وفقاً للمادتين يجب أن يمرّ عبر مشروع قانون تضعه الحكومة بأكثريّة الثلثين، وقد يؤدي الخلاف بين الحكومة والمجلس النيابي حول التعديل المطلوب الى حلّ المجلس النيابي بطلب من رئيس الجمهورية وإجراء انتخابات جديدة (المادة 77).
الرسالة الرئاسية هي استثمار في الوقت الضائع وفي الأزمة الحكومية المفتوحة، وهي بداية لفصل جديد من الإنتهاكات لعمليّة تكوين السلطة التي سبق وتعرّض لها إتّفاق الطائف منذ توقيعه، والتي ابتدأت باغتيال الرئيس رينيه معوض واستُتبعت بمنع الدولة من بسط سلطتها وحلّ الميليشيات، والإعتداء على مبدأ فصل السلطات وتوازنها وتعاونها بتكريس الترويكا الرئاسيّة وتثبيت مبدأ التمديد لرؤساء الجمهورية خلافاً للمادة 49. بالإضافة الى إخراج الأجهزة الأمنيّة عن سلطة مجلس الوزراء والتعامل معها كأجهزة مستقلّة تتبع لسلطة الوصاية، وصولاً لتقاليد الثلث المعطل وحصة الرئيس الوزارية التي كرّسها السلاح غير الشرعي في اتّفاق الدوحة وما بعده.
ربما فات من تولى صياغة هذه الرسالة أنّ الوفاق الوطني والعيش المشترك هما عنوانان غير كافيين للإحتماء خلفهما، فمقدّمة الدستور نصّت كذلك في الفقرة «ج» على ما يلي: «لبنان جمهورية ديمقراطية برلمانية تقوم على….. العدالة الإجتماعية والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين دون تمايز أو تفضيل»، وأنّ العدالة الإجتماعية والمساواة هما في أساس الإنماء المتوازن الذي اعتبرته مقدّمة الدستور عينها في الفقرة «ز» منها ركناً من أركان وحدة الدولة واستقرار النظام». وربما فات من صاغ الرسالة أيضاً أنّ مجتمعاً لا يمكنه تأمين تكافؤ الفرص بين مواطنيه هو مجتمع على شفير الإنفجار عند كل لحظة، مهما ارتفعت فيه خطابات النفاق والتكاذب السياسي التي تستند الى تفاهمات مزيّفة لا تستجيب لهواجس وقناعات المواطنين.
هل يجب التذكير أنّ اندفاع اللبنانيين على اختلاف طوائفهم، ولا سيما منهم سكان الأطراف والأرياف للإنخراط في التنظيمات والأحزاب اليسارية وبعدها في الحرب الأهلية للإنقضاض على الدولة، أتى بعد فترة من النضال السياسي عبر الجامعات والنقابات وسواها من تنظيمات المجتمع المدني، رُفعت خلالها شعارات المطالبة بالمساواة وتكافؤ الفرص وإلغاء الطائفية السياسية، ولم يكن فقط بسبب حماسهم للقضية الفلسطينية أو لاستعجالهم إدخال الماركسيّة الى الحياة السياسية بل لشعورهم أنهم خارج رعاية الدولة وحمايتها. الإستقرار الوطني لم تحمه سابقاً الكوتا الطائفية في التوظيف ولم يصمد أمام غضب المزارعين في الجنوب وعكار والبقاع، وطلاب الجامعات وسكان الأرياف وسائر الشرائح الإجتماعية المهمشة، والعيش المشترك لم يتعزّز بالإصرار على التمايز بين طائفة وأخرى وبين مواطن وآخر على حساب الإختصاص والكفاءة، بل يتعزّز بقناعة المواطنين بأنّهم متكافئون أمام كلّ الإستحقاقات الإدارية والوظيفية والقانونية، وأنّ ليس هناك أي تمايز لطائفة أو لمجموعة سياسية.
وبصرف النظر عما ستُسفر عنه الرسالة وعن المعالجة التي ستُعتمد، لا يبدو ما تبقى من العهد المحاصر إقليمياً ودولياً كافياً لفتح معركة تعديل الدستور وافتعال أزمة مع السلطة التشريعية تلاقي الإشتباك المستمر في الصلاحيات مع رئيس الحكومة والحرب المفتوحة على وليد جنبلاط، كما أنّ رفع حدّة المواجهة مع من لم يمتثل لقوى الأمر الواقع الى ما بعد المواجهة السياسية هي مغامرة عاجزة عن إسقاط الطائف.