«سأختار شعبي سياجاً لمملكتي ورصيفاً لدربي
إصطفّوا أيها الناس يا أيها المختارون كحبّات اللؤللؤ» (محمود درويش عن «الديكتاتور»)
من أجمل مقاطع مسرحية «نزل السرور» لزياد الرحباني، ما قاله المثقّف الثوري حول «إيديولوجية التعتير»، وتعني أنه على الناس أن يعانوا ضيق الحال، وأن تسوء أوضاعهم المعيشية حتى يثوروا ويُسقِطوا النظام القائم.
الواقع هو أنّ زياد الرحباني، في تجربته اللصيقة مع «ثَورجِيي» القرن الماضي، أكدت له هذا المنطق الملتوي في التخطيط الثوري للأمور. ولكنّ السؤال هنا: إذا كان هدف الأفكار الثورية عامة تحسين حياة الأفراد وزيادة رخائهم الاجتماعي، فما المنطق إذاً بأن تنقضّ هذه الأفكار الثورية على المجتمعات التي تنعم بنوع من التوازن الإجتماعي لكي تُقوّض القائم وتزيد في «تعتير» البشر حتى يثوروا ويسقطوا القائم بالعنف ليدخلوا في مجهول لا يضمن لهم تحسّن أحوالهم؟ لا بل على العكس فإنّ هذه الأحوال قد تسوء، وقد يتم إزهاق أعداد غير محددة من الأرواح على الطريق.
حزب ولاية الفقيه لا يختلف في شيء بهذا المنطق مع معظم المنظومات الثورية اليسارية والفاشية، المُلحدة منها أو المتدينة، فهو يعتبر أنّ زيادة تعتير الناس هي المدخل الضروري لدفعهم إلى الثورة، وبالتالي هدم الحاضر في سبيل مستقبل في عالم الغَيب.
يكفي هنا أن نذكر ما قاله الامين العام لـ«حزب الله» السيّد حسن نصر الله يوماً: «يجب أن نعمل على إنضاج الحالة الجهادية، فعندما يكون في لبنان مليون جائع، فإنّ مهمتنا لا تكون في تأمين الخبز، بل بتوفير الحالة الجهادية حتى تحمل الأمّة السيف في وجه كل القيادات السياسية (راجع جريدة النهار، الأرشيف)».
ويكفي أن نراجع أيضاً أقوال الكثيرين من خطباء حزب ولاية الفقيه في لبنان وتصريحاتهم، التي ركزت دائماً على تحويل لبنان إلى «مجتمع مقاومة»، يعني السَّعي إلى تقويض كل قواعد الاقتصاد والإجتماع والسياسة وتحويله إلى حالة ثورية مبنية على المقاومة.
وهذا يستدعي، حسب تجارب الشعوب، تجاوز النظام السياسي الديموقراطي وإحلال نوع من نظام حالة الطوارئ الشَبيه بالحكم العسكري، وتجاوز أحكام القضاء المدني، وتحويله إلى عدالة ثورية! ونذكر كيف طالبَ بعضهم بنَصب المشانق لمعاقبة العملاء.
أمّا الإقتصاد ففي خبر كان! لأنّ المجتمع المقاوِم لا يعتمد لا على الخدمات ولا على السياحة، لأنها تدفع إلى «الميوعة» وتشجّع على «العمالة». وهكذا يتحوّل المجهود كله إلى بناء زراعة وصناعة تركّز على منطق المقاومة، وتصبح فيها زراعة الحشيشة وصناعة المخدرات من ضرورات المجتمع المقاوم!
بالطبع، فعلى المجتمع توفير كل الجهود للإنتاج الحربي، يعني صناعة الدبابات والصواريخ من مختلف العيارات ومضادات الدروع والطيران، ولم لا؟ يمكن الارتهان في ذلك كله إلى دولة «مقاومة ومُمانِعة» أخرى، كإيران مثلاً، يمكنها أن توفّر كل وسائل «الرفاهية» العسكرية مقابل أن «تنضج الحالة الثورية» في لبنان للدفاع عن طهران، وهكذا يصبح كل لبنان معسكراً للحرس الثوري الملتزم بقضية ولاية الفقيه.
أمّا عن الطبابة والإستشفاء، فمن المنطقي أن تتحوّل إلى الحالة الميدانية، يعني أنّ الجهود والموارد ستنصَبّ لعلاج الجرحى والمصابين والأمراض ذات الطابع القصير المدى، أمّا العلاجات المُزمنة للقلب والسكري والقصور الكلوي وجراحات القلب وزرع الأعضاء وعلاجات السرطان، فهي مكلفة جداً وتأخذ من درب مجهود المقاومة!
أما العلم فحدّث ولا حرج، فلا مجال طبعاً للإسراف في تحسين أوضاع المباني المدرسية طالما أنها ستتعرّض للدمار بفِعل مقاومة العدو للمقاومة. ويكفي إنشاء مدارس ميدانية لتعليم أطفال المقاومة كيف يتدربون على أن يصبحوا يوماً شباب المقاومة ووقود المقاومة وشهداء المقاومة.
وبَدل مبادئ الكيمياء والاقتصاد يكفي تلقينهم كيفية تحضير المتفجرات الشعبية من حَواضِر البيت! وبَدل دفعهم إلى تَعلّم الفلسفة يكفيهم تَلقّي عقيدة الحزب، وبَدل التربية على قبول الآخر تصبح التربية على نصب الأفخاخ وزرع العبوات للآخر.
أمّا السياحة فبما تَيسّر من زيارات للمعالم الحربية وأضرحة الشهداء ومواقع الدمار وساحات المجازر الدموية، وبالطبع إنّ السائحين يصبحون من غير «الدفّيعة» الذين ينفقون الأموال، بل تصبح السياحة مفتوحة للثوريين الساعين إلى الاستشهاد في كل حدب وصوب.
في إحدى المناسبات، كنتُ في سجال تلفزيوني مع أحد الموكلين الدفاع عن «المقاومة» وهو ضابط متقاعد وأستاذ جامعي، وقلت له انّ فَرض مجتمع المقاومة على بلد مدخوله الأساسي من السياحة ومن سُمعة «الكِبة النَيّة والتبّولة والحمص بطحينة» يعني انهيار كل ما تأسَّس عليه هذا الاقتصاد، فقال لي بقناعة الواثق: «فلتذهب كلها إلى الجحيم، وما هو ذلك كله مقابل العزة والكرامة!». فقلت له إنّ التجارب السابقة في ذلك أدّت إلى تحويلنا إلى أمّة من المتسوّلين تسعى إلى رهن نفسها للدول المانحة بعد كل حفلة دمار تَنالنا، فأين العزّة والكرامة في ذلك؟!
لماذا كل هذا الكلام الآن؟
الواقع هو أنّ القوى الشعبية قد أضاعت بوصلة تحرّكها منذ سنوات، فلا توجد حكومة، مهما كان تمثيلها، قادرة على تحقيق المطالب في ظل الواقع الذي فرضه منطق المقاومة الذي خلقه حزب ولاية الفقيه، وأدى إلى إفقار البلد وشعبه.
لقد أكد كل خبراء الاقتصاد الموضوعيين انّ العائق الأول للاستثمار في لبنان هو الوضع الأمني، الذي تَسبّب به وجود ميليشيا مسلّحة يمكنها افتعال حرب أو خلل أمني مفاجئ يؤدي حتماً إلى ضرب أيّ مبادرة استثمارية.
وبالتالي، فإنّ الأزمة الأخيرة في سعر صرف الدولار هي نتيجة تراكم شحّ دخول العملة الصعبة لقلة مشاريع الإسثمار، والحدث الطارئ هو تَوجّه جزء من العملة الصعبة إلى سوريا، إمّا مباشرة عبر سحب المال أو من خلال استيراد مادة البنزين وتهريبها. في المحصلة، إنّ معسكر المقاومة ووكيله الشرعي في لبنان مسؤولان عن الجزء الأكبر.
لقد استمعتُ، على غير عادتي، لخطاب نصر الله الأخير، لعلّني أجد فيه بارقة أمل في شفقة على الناس الذين يعانون منذ عقود، أو مراجعة حسابات حول جدوى الاستمرار في المشاريع الخرافية، فلم أجد إلّا المُكابرة والإصرار على تدفيع لبنان ثمن حشر إيران، وهذا بالطبع يؤكد على فرضية منطقية واحدة، وهي أن لا أمل لاستقرار في لبنان إلّا باقتناع جمهور «حزب الله» بالتخلي عن تلك الأسطورة.
الحقيقة برأيي هي أنه على المحتجّين اليوم، بَدل التوجّه في مظاهراتهم وهتافاتهم الشاجبة لأيّ مسؤول في الدولة، بغضّ النظر عَمّن هو، فليتوجّهوا إلى مقار «حزب الله» ويتظاهروا ويحتجّوا على المنطق الذي حَرمهم وسيحرم أبناءهم من نعمة العيش الكريم، والأمل بالمستقبل، ورفض صيغة المجتمع المقاوم، وكل أنواع السلاح الخارج عن سلطة الدولة.