سجّل نمواً بنسبة 111% منذ 2019 وأوفر من الدواء المستورد
ينطلق قرار تصنيع أي دواء أساساً من حاجة السوق إليه. وتتمثّل الخطوة الأولى بإنجاز الفحوصات والاختبارات اللازمة التي تثبت فاعلية الدواء خلال فترة صلاحيته، تليها دراسات التكافؤ الحيوي (دراسات على الإنسان مقارنة مع الدواء الأساسي) في مختبرات خارج لبنان- في حال كان الدواء مطوّراً داخل المصنع اللبناني- مع مقارنة المستحضر المحلي بالمستحضر الأساس. بعدها تُجرى الفحوصات المخبرية في مختبرات عالمية معتمدة من قبل وزارة الصحة العامة للتأكيد على الاختبارات التي أجريت داخل المصانع اللبنانية. من ثم يقدَّم ملف التسجيل إلى الوزارة، محتوياً على كامل شروط التسجيل المعتمدة للأدوية المصنعة محلياً كما للأدوية المستوردة. وبناء عليه تقوم الوزارة بدراسة الملف وفق المقتضى ضمن اللجان التقنية قبل تحديد سعر الدواء بحسب آلية التسعير الخاصة بها كي يتم، في المرحلة الأخيرة، إعطاء الإذن بتصنيع وتسويق المستحضر.
في هذا الإطار، كان لـ»نداء الوطن» حديث مع رئيسة نقابة مصانع الأدوية، الدكتورة كارول أبي كرم، التي لفتت إلى نواح ثلاث في معرض التأكيد على نوعية الإنتاج في المصانع اللبنانية: أوّلها المعايير العالمية المحددة من قبل منظمة الصحة العالمية، والمعروفة أيضاً بأصول التصنيع الجيّد (Good Manufacturing Practices)، المعتمدة من قبل وزارة الصحة المشرفة على حسن تطبيق هذه المعايير في المصانع وفق كشوفات دورية للتأكد من مطابقتها لها. تليها المختبرات الدولية التي تعتمد المصانع اللبنانية في صناعاتها. إذ إن هناك ما يقارب 39 مختبراً عالمياً وإقليمياً تصنّع أدويتها في لبنان وهي تشرف بدورها على المصانع وتقوم بكشوفات دورية للتأكد من مطابقة المعايير الدولية ومعايير الدول التي تنتمي إليها. ثم هناك السلطات الصحية في بعض الدول التي يصدّر لبنان الدواء إليها، حيث تقوم بزيارة المصانع بشكل دوري والكشف عليها لنفس الغرض أعلاه.
وعن المواد المستخدمة في صناعة الدواء في لبنان، تجيب أبي كرم: «لصناعة المواد الأولية، وهي صناعة تخصصية، مراكز معينة في دول العالم. هناك مصنع واحد في المنطقة يقوم بتصنيع عدد ضئيل منها وبصورة خجولة جداً. فكل المواد الأولية المستعملة في صناعة الدواء تُستورد من الخارج. أما مواد التوضيب، أي علب الكرتون والنشرات الداخلية، فنقوم بشرائها محلياً».
لمصانع الأدوية اللبنانية الكفاءة والطاقة الإنتاجية الكافية لتغطية كامل حاجة السوق المحلية. لكن على الرغم من التعاون مع وزارة الصحة العامة، إلا أن التحديات التي تواجه القطاع تحول دون تحقيق الغاية المرجوة.
خطط غائبة وأموال عالقة… وهجرة أدمغة
في دردشة مع أحد إداريي شركة «بنتا» للصناعات الدوائية في لبنان، أشار إلى أن التحدي الأكبر منذ نهاية العام 2019، أي مرحلة تفاقم الأزمة الاقتصادية وتدهور سعر صرف الليرة، كان ولا يزال غياب تمويل استيراد المواد الأولية والآلات والمستلزمات الضرورية للإنتاج. ويقول: «لم يكن دعم مصرف لبنان لتأمين المواد الأولية عادلاً ومتساوياً بين الدواء المحلي الصنع والدواء المستورد. فقد رأينا الأدوية المستوردة تُدعم بنسبة 100% على سعر كلفتها، في حين أن الصناعة اللبنانية تُدعم فقط بنسبة 85% على المواد الأولية المستوردة، ما يشكل نسبة 30% من سعر الكلفة الإجمالي». وإذا ما قارنّا الدواء المستورد بالمحلي، لوجدنا أن الصناعة الدوائية المحلية تُكلّف مصرف لبنان ثلث ما يكلّفه الدواء المستورد، وهو ثلث كفيل بتأمين مخزون يزيد عن الأدوية المستوردة بنسبة تفوق المرتين والنصف. في هذا السياق، تعلق أبي كرم أنه رغم المتابعة وتقديم كافة الدراسات ذات الصلة منذ العام 2020، إلا أن المسؤولين لم يولوا الأهمية اللازمة لضرورة إيجاد خطة ترشيد النظام الاقتصادي الحر المعتمد في لبنان من خلال دعم الصناعة المحلية. «فلو حصل ذلك لكنا تمكنّا أقلّه من تأجيل أزمة الانقطاع شبه التام للدواء». وتضيف أن لكل دواء في لبنان ثمة ما يفوق 20 رديفاً (Generic) يتم استيرادها بغض النظر عن حاجة السوق إليها أو حتى أسعارها. فبغياب السياسة والرؤية السليمة وتحت شعار «النظام الاقتصادي الحر» استنزفت الأدوية المستوردة من الخارج احتياطي مصرف لبنان من دون «رقيب ولا حسيب». إذ تمّ تحويل مبالغ هائلة بالعملات الصعبة لاستيراد أدوية لم تكن السوق اللبنانية بحاجة إليها أساساً. فكيف للبنان الذي لا يتجاوز عدد سكانه 6 ملايين نسمة أن يستورد أدوية بما لا يقل عن مليار وخمسمائة مليون دولار أميركي سنوياً، في حين لا يتخطى استيراد الأردن، مثلاً، نصف ذلك المبلغ مع عدد سكان أقل بقليل من الضعف؟
في ما يلي رسم بياني يعرض مقارنة لسعر عيّنة من الأدوية المصنعة محلياً مع أخرى مستوردة من الخارج، بحسب الحالة المرضية. ويظهر أن سعر الدواء المحلي الصنع يقل بمعدّل وسطي مقداره 35% عن سعر ذلك المستورد، ليصل الفارق أحياناً بين المنتجين إلى حدود 67%:
التحدي لم يقتصر على الدعم غير المتساوي بين التصنيع المحلي والاستيراد من الخارج، إنما تخطاه ليشمل عدم صرف مصرف لبنان للأموال المستحقة للدعم بطريقة دورية ومستدامة. هنا يردف إداري شركة «بنتا»: «هناك أموال عالقة لحسابنا لدى مصرف لبنان تعود إلى أوائل العام 2021 ولم تُسدَّد لغاية الآن. فالمورّدون الذين فقدوا الثقة أصلاً في بلدنا باتوا يطلبون تسديد كلفة المواد الأولية مسبقاً في حين لا ندري ما إذا كان المصرف المركزي سيمدّنا بالدعم أم لا».
ثم هناك تحدّ آخر شهده القطاع خلال الازمة. فالمصانع راحت ترفع قدرة إنتاجها تلبية لحاجة السوق المحلية مضاعفة أعداد الموظفين، في وقت كانت قطاعات أخرى تشهد موجات تقليص لليد العاملة. لكن التردي المتواصل في الأوضاع دفع بالعديد من الأدمغة والخبرات بالتوجه إلى الخارج بحثاً عن ظروف معيشية وحياتية أفضل. وهو ما يشكل خطراً محدقاً بالقطاع على المديين المتوسط والبعيد.
تطوير رغم المنافسة
رغم كل شيء، تقوم المصانع بتطوير محفظتها الدوائية وتعمل جاهدة مع وزارة الصحة العامة على إضافة مستحضرات وتسجيلها وطرحها في السوق اللبنانية لتغطية فئات علاجية جديدة وتأمين حاجة المرضى من أدوية مستحدثة. ومع العلم أن لا إمكانية متاحة لتغطية كافة المستحضرات في فترة وجيزة، إلا أن الصناعة المحلية، بحسب أبي كرم، «تؤمن منفردة حاجة السوق اللبنانية، إذ لم نتوقف يوماً عن تسليم الدواء للصيدليات دون انقطاع وبلا شروط».
ورداً على سؤال حول ما إذا كانت الشروط المُطبقة على الدواء اللبناني المصدر هي نفسها بالنسبة للدواء المستورد، تشير أبي كرم إلى كيفية دخول الدواء إلى لبنان. إذ يكفي تسجيله في وزارة الصحة العامة وفق شروط تضعها الوزارة، وهي شروط تُطبَّق على الاستيراد كما على المنتج المحلي. الدواء المستورد لا يخضع لقانون واضح في حين أن الدول المجاورة تضع سياسات حازمة لحماية صناعتها المحلية وإعطائها الأولوية. وتتابع أبي كرم: «في وقت نُسجّل الدواء المستورد دون قيود، وخلال فترة زمنية لا تزيد عن السنة، تُطبَّق بالمقابل قيود تقنية وزمنية صارمة على الدواء اللبناني المصدر تستغرق أحياناً أكثر من ثلاث سنوات لتسجيله خارج لبنان، ما يعرقل عجلة التصدير». فعلى سبيل المثال لا الحصر، يستورد لبنان من الأردن أكتر من 350 صنفاً دوائياً في حين يُصدّر إليه 15 دواء، ويستورد من مصر 48 صنفاً في وقت يُمنع من التصدير إليها. أما السعودية، فيستورد منها حوالى 50 دواء ويصدّر إليها 10 فقط، في وقت يستورد من الأرجنتين قرابة الـ100 صنف ولا يصدّر إليها شيئاً.
لقاح… لا لقاح؟
ماذا عن التطورات اللاحقة لحصول شركة «أروان للصناعات الدوائية» على الموافقة لتصنيع لقاح «سبوتنيك» الروسي في منشأتها الواقعة في بلدة جدرا الشوفية، بعد أن ثبت للجهات الروسية تمتّع المصنع بكافة المقوّمات والقدرات لتصنيع اللقاح؟ سألنا النائب السابق أمل أبو زيد، الذي كان من ضمن الوفد الذي زار المصنع في شباط الماضي وضم وزير الصناعة السابق، عماد حب الله، والسفير الروسي، ألكسندر روداكوف. أبو زيد عزا أسباب التأخير الحاصل إلى الأنظمة اللبنانية غير المحدّثة والتي أدت إلى عرقلة مسار المفاوضات. والكلام هنا عن لغط حاصل في نص إحدى المواد في القانون اللبناني بحيث «يتوجب على الشركة، في حال أرادت تصنيع مستحضر سائل، أن يكون لديها خط إنتاج منفصل عن الخطوط الأخرى». ورغم تأكيد أبو زيد على دعم وزارة الصناعة للمشروع، إلا أن الإشكالية تبقى في وزارة الصحة في حين يتعيّن تعديل نص المادة من قبل مجلس الوزراء. وختم متسائلاً: «هل من العدل تضييع فرصة تصنيع حوالى 50 مليون جرعة من اللقاح سنوياً بسبب نص مادة في قانون لم يُعدَّل منذ أيام العثمانيين؟».
تجدر الإشارة أخيراً الى أن العمل جار منذ تشرين الأول الماضي، بالتعاون مع المصانع ومصرف لبنان، على خطة تقوم من خلالها وزارة الصحة بترشيد استيراد الدواء إن لناحية الكمية المطلوبة أو الأنواع التي تحتاجها السوق المحلية مع منح الأفضلية للأدوية اللبنانية الصنع. الخطة تدعو إلى التفاؤل قدر تعلّق الأمر بتحقيق نوع من الأمن الدوائي في لبنان مستقبلاً، على غرار العديد من الدول المجاورة. فالطموح والكفاءة التقنية متوافران لكن العبرة تبقى في الخواتيم.