ثمّة مشاريع غامضة يجري العمل على ترتيبها عند المثلّث السوري – اللبناني- الإسرائيلي تماشياً مع التغيير الكبير الذي يضرب الخريطة الجغرافية للشرق الأوسط. ولم يعُد من باب الغيب، الحديث عن تفكّكِ دوَل وتغييرات جغرافيّة وديموغرافيّة وتَحَلُّل مجتمعات.
هذه المخاوف أصبحت حقائق على الأرض في أكثر من منطقة: العراق، سوريا، اليمن وليبيا. وقبلها التقسيم «الفجّ» الذي طاولَ السودان، وسط الكلام السائد عن أنّ هذه العاصفة ستضرب لاحقاً الأردن الذي لطالما طالبَ أرييل شارون بتقسيمه وإقامة دولة فلسطينية على أحد أجزائه، إضافةً إلى الخليج.
من هنا مثلاً، محاولة دوَل الخليج استباق التطوّرات بإنشاء رابط عسكري وأمني واستخباراتي بينها، ظاهرُه التحدّيات الإيرانية، وحقيقتُه توسيع إطار التعاون لمراقبة الساحة الخليجية جيّداً وإجهاض المخاطر في مهدِها.
ومناسبة هذا الكلام، القلق المتزايد حيال واقع البلدات والقرى الدرزية في المناطق المحاذية للحدود. ذلك أنّ تطوّر المعارك سيؤدّي في نهاية المطاف إلى تطويق «جبهة النصرة» للبقعة الدرزية، وأنّ المسألة هي مسألة وقت فقط.
ولم يعًد سرّاً أنّ العلاقة بين هذه المناطق والقيادة السوريّة في دمشق تشوبها بعض المسائل، مثل استجابة النظام جزئياً لطلبات التسلّح الدرزية، فهو أرسلَ أسلحةً خفيفة ومتوسّطة للدفاع عن هذه المناطق في وجه التنظيمات الإسلامية المتطرّفة، لكنّه أحجَم عن إرسال الأسلحة الثقيلة على رغم الإلحاح الدرزي، لأسباب عدّة أهمّها أنّ ذلك سيزيد هامشَ الاستقلالية لدى الدروز، وبالتالي السعي لاحقاً إلى تكريس ذلك، أقلّه عبر مناطق تحظى بالحُكم الذاتي.
ولم تؤدِّ محاولات رئيس «اللقاء الديموقراطي» النائب وليد جنبلاط الحثيثة تجاه «النصرة» لإبعاد الخطر عن المناطق الدرزية السورية، فـ«التقية» السياسية هنا لم تعُد مجدية في ظلّ إيدويولوجية جامدة لدى هذه المجموعات تُكفّر عقائدياً المعتقدات الدرزية.
لكنّ اللعبة لو بقيَت وفق هذه الحدود، لكانت المشكلة قابلة لإيجاد حلول ولو جزئية لها. إلّا أنّ السؤال الأبرز هو المشروع المرسوم لهذه المنطقة والتكليف الإسرائيلي بتنفيذه. وبكلام أكثر وضوحاً، إنّ التواصل القائم تاريخياً بين دروز سوريا ولبنان وإسرائيل ازداد نشاطه مع المخاطر المرسومة لدروز سوريا.
وتنقل أوساط ديبلوماسية مطّلعة أنّ عقَلاء الدروز في إسرائيل نصَحوا أخوانَهم في سوريا بالاستمرار في التنسيق مع النظام، وأخوانَهم في لبنان بتعزيز علاقتهم مع «حزب الله»، خصوصاً من الناحية الأمنية.
وتكشفُ هذه الأوساط أنّ دروز إسرائيل أبلغوا إلى أخوانهم السوريين احتمالَ تكرار تجربتِهم مع دروز لبنان أيام الاحتلال الإسرائيلي للجبل الدرزي، ولكن هذه المرّة مع دروز سوريا ووفق سناريو يلائم المعطيات. أي من خلال اجتياز دروز إسرائيل الشريط الحدودي والانضمام إلى أخوانهم السوريين والقتال إلى جانبهم.
وتعتقد الجهات الدولية أنّ ازدياد الخطر على المجموعات الدرزية سيدفع إلى كسرِ «الستاتيكو» الحاصل منذ العام 1973. من هنا تُبدي هذه الأوساط خشيتها من لعبةِِ إسرائيلية خبيثة تفتح أبوابَ التهديد أمام دروز لبنان أيضاً، ما سيُوسّع الاحتمالات عند الحدود اللبنانية – الإسرائيلية.
من هذه الزاوية جاءَت مخاوف اقتحام «جبهة النصرة» منطقة شبعا والحدود القريبة منها. وفي المعطيات الميدانيّة والجغرافيّة، أنّ أيّ تقدّم لـ«النصرة» في اتّجاه الأراضي اللبنانية في البقاع الغربي والجنوب، لا يمكن حصوله بلا ضوء أخضر إسرائيلي، كون الجيش الإسرائيلي يسيطر على الممرّين الوحيدين اللذين يؤدّيان إلى لبنان.
وفي الاجتماع الثلاثي الأخير للجنة الهدنة، التي تضمّ ممثلاً عن الجيش اللبناني وآخر عن الجيش الإسرائيلي، وثالثاً عن «اليونيفيل»، قال الضابط اللبناني في وضوح إنّه إذا فكّرَ أحدٌ باللعب على التناقضات ودعمِ فريقٍ ضدّ آخر، فإنّه يكون كمَن يلعب بالنار، لأنّ المنطقة كلّها ستشتعل.
وفهمَ الضابط الإسرائيلي فوراً الرسالة اللبنانية، وأجاب: «لا أحد يفكّر بمغامرات من هذا النوع». لكنّ الجواب الإسرائيلي لا يعني أبداً الركون له. فخلال وجود الإسرائيليين في لبنان، أعطوا عشرات، لا بل مئات الرسائل التطمينية، لتأتيَ النتيجة معاركَ طاحنةً وتهجيراً مسيحيّاً شاملاً.
لذلك يستمرّ القلق المكبوت في البقاع الغربي والجنوب على الرغم من دقّة الوضع في عرسال. إلّا أنّ الجيش نجحَ في ترتيب خطوط دفاع قويّة في عرسال، وهو ما دفعَ المسلّحين إلى البقاء في جبال القلمون خلال فصل الشتاء.
وفي طرابلس، نجحَ الجيش في اختبارٍ أهمّ، وهو تماسُك العسكريين ووحدة المؤسسة، بعدما راهنَ المتطرّفون على انشقاقٍ داخلَها من خلال إثارة الغرائز المذهبية.
وهذه النقطة تحديداً هي التي زادت من ثقةِ العواصم الغربية، وتحديداً واشنطن، برهانِها على الجيش. ذلك أنّ المصادر الديبلوماسية المعنية راقبَت بدقّة كيف قاتلَ الجيش اللبناني جسماً واحداً، وكيف تفصلُ القيادة عناصرَ كثيرة تحاول إدخالَ السياسة إلى داخل المؤسسة، وقد شملت قرارات الفصل أكثرَ من مئة عنصر من مختلف التلاوين المذهبية والطائفية.
من هنا تستعجل واشنطن تسليمَ لبنان سربَ الطائرات الحديثة المجهّزة أحدثَ التقنيات للمراقبة والقصف، إضافةً إلى أسلحةٍ أخرى متطوّرة كانت ممنوعة على لبنان بسبب الخشية من انقسامات داخل المؤسسة العسكرية.
وهذا الأمر سيشكّل محورَ محادثات نائب وزير الدفاع الاميركي ماثيو سبنس الذي وصلَ إلى لبنان، وهو سيعمل للتسريع في تسليم السلاح إلى الجيش. هذا في وقتٍ تشجّع الأوساط الديبلوماسية أن ينجز الجيش عملية عسكرية بهدف إنقاذ العسكريين المخطوفين، في حالِ فشَلِ المفاوضات السياسية.
ويبقى القلق الدائم من حصول عمليات إرهابية في ظلّ عاملين: الأوّل للتشويش على الحوار الذي سيُحرّك ملفّ الرئاسة، والثاني فترة الأعياد، خصوصاً يوم رأس السنة، وهو ما يشكّل توقيتاً ملائماً للإرهابيين.