يعيش الدروز في لبنان وسوريا حالاً حرجة بين «سندان» التنظيمات المسلّحة و»مطرقة» النظام السوري. واحتدام المواجهات بينهما في سفح جبل الشيخ الشرقي ومحافظتَي القنيطرة وريف دمشق، جعلهم يعيشون هاجسَ توسّع المعارك لتطاول مزيداً من القرى الدرزية وصولاً إلى لبنان، وتحديداً إلى العرقوب وحاصبيا وراشيا.
إيديولوجياً وبسيكولوجياً، لا يبدو الدروز متحمّسين للإنحياز إلى أيٍّ من طرفَي النزاع، وهم أبناء الجبال الأقحاح، أكانوا سوريين أو لبنانيين، لا يتذكّرون، خصوصاً الكبار بالسنّ منهم، إلّا النضال ضدّ الاستعمار العثماني والفرنسي، وهم أبلوا بلاءً حسناً أيام الثورة السورية الكبرى واستطاعوا إلى جانب إخوانهم من الطوائف الأخرى انتزاع النصر والحصول على استقلال سوريا الحديث.
فرّق تسد
لكنّ الصراع اليوم بات من طبيعة أخرى، والخطر التكفيري المتمثّل بتنظيم «داعش» و«جبهة النصرة» يُهدّد استقرارهم وأمنهم، لكنّ عضو كتلة «اللقاء الديموقراطي» النائب أكرم شهيّب يؤكّد «أنّ الدروز لم يكونوا يوماً في مواجهة الفصائل السورية المقاتلة ضدّ نظام بشار الأسد، وجزءاً كبيراً منهم منخرط في الثورة، وقد انضم العديد منهم إلى الفصائل المقاتلة، وبالتالي فإنّ الدروز لا يخشون مَن يقاتل من أجل حريّة الشعب السوري ويسعى إلى إسقاط النظام القاتل».
المفارقة أنّ شهيّب كشف عن معلومات معاكسة لما تُروّجه وسائل الإعلام التابعة للنظام السوري، والتي ركّزت في الآونة الآخيرة على تخوّف الدروز المقيمين في قرى القنيطرة وجبل الشيخ من تمدّد «جبهة النصرة» إلى قراهم، فيقول: «ما يحصل في القنيطرة هو عملية تحرير، حيث بات 90 في المئة من المحافظة في يد المعارضة».
صحيح أنّ النقاط الساخنة بين سوريا ولبنان عديدة ويقطنها كثير من الدروز، لكنّ اللعبة تبدو مكشوفة لدى شهيّب: «إنّ النقاط الساخنة التي يتكلّمون عنها ليست سوى نقاط يُمارس فيها النظام المعادي لشعبه، سياسة «فرّق تسد» أو سياسة القتل المنظّم. أما لبنان فلا يضمّ نقاطاً ساخنة سوى تلك التي تشهد توترات مرّة مع النظام ومرة مع التكفيريين، وأعني بها المناطق الحدودية في عكار وعرسال، والبقاع الشمالي».
لا تسلّح
بدأ السباق لكسب ودّ الدروز من النظام السوري من جهة، والثوار من جهة أخرى منذ بداية الثورة السورية عام 2011، ولم تألُ المرجعيّة الروحيّة لدروز جبل الشيخ جهداً من أجل تنفيس الاحتقانات والتوترات الناشئة عن الحوادث الأمنية، بين مسلّحي قراها وفصائل الثوار.
أما النظام السوري فانتقد اللغة الوسطية للدروز، التي ترفض رهن طائفة الموحّدين لمشروعه، والإصرار على خيار الاندماج في المحيط الحيوي والطبيعي لأبناء الطائفة، فردَّ برسالة واضحة تمثّلت بسيارة مفخخة في أحد أحياء مدينة صحنايا ذات الغالبية الدرزية، كما هي عادته، في محاولة لتهييج الشارع وتخويفه وإعادته إلى حظيرته.
وهنا يستطرد شهيّب: «منذ بدء الثورة السورية، يحاول النظام زجّ الدروز وتوريطهم في قتال المعارضة، إلّا أنه فشل حتى الآن. فمَن يقاتلون إلى جانب النظام هم فقط بعض العناصر الدرزيّة في الجيش وفي ميليشيا الدفاع الوطني المكوّنة من مختلف الطوائف». وهو يقدّر خسائر الدروز الذين يقاتلون فيها بما لا يقلّ عن 1500 عنصر منذ بداية الثورة.
قيل الكثير عن موجة تسليح درزية بعد كلام عن خطر تكفيري يواجه القرى الدرزية اللبنانية في العرقوب وراشيا، لكنّ الجولة في تلك المناطق تُناقض ما يُثار، ويلتقي هذا الانطباع مع كلام شهيّب الذي يوضح: «أولاً لا نعتبر أنّ هناك مناطق ساخنة، فهي ليست سوى مناطق لبنانية تضمّ كلّ العائلات الروحيّة اللبنانية.
ثانياً، قصة اللبنانيين مع إقتناء السلاح لا تحتاج إلى توضيح ولا يمكن الحديث عن «موجة تسلّح» لا عند الدروز ولا عند غيرهم، لأنّ الدروز كما سواهم يؤمنون بالجيش اللبناني والقوى الأمنية ودورهما في حفظ الأمن، إن على الحدود أو في الداخل».
لكنّ أصوات القذائف التي يتردّد صداها في شويّا وشبعا وعيحا وعين عطا، جعلت دروز حاصبيا وراشيا يتوجّسون من سيطرة بعض الفصائل الاسلاميّة المتشدِّدة على شبعا وتحويلها «عرسال ثانية»، لذلك بدأ إعلام قوى «8 آذار» يروّج لتسلّح الدروز، لكن رئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» قلّل من المخاوف والهواجس لدى الدروز هناك، ويرى شهيّب «أنّ المقارنة بين عرسال وشبعا في غير محلها بل غير واقعية لا من حيث الجغرافيا ولا من حيث السياسة».
مع تصاعد وتيرة الأحداث على الحدود اللبنانية – السورية، اختلط الحابل بالنابل، ورمى «حزب الله» بما يشبه «قنبلة صوتية» إعلاميّة تفيد بأنّ «سرايا المقاومة» تنفّذ برنامج تدريب للمسيحيين والدروز بغية تخفيف الضغط عن «حزب الله» في القرى اللبنانية الحدودية المعروفة بكثافتها الدرزية والمسيحية. لكنّ شهيّب ينفي علمه بهذه الظاهرة، التي «إن وُجِدت، فهي تبقى حالات فرديّة لا يُبنى عليها».
لا يتوقّف «حزب الله» عن التلويح بخطر «داعش»، وقد نجح ربما في إقناع بعض الدروز في قرى حاصبيا وراشيا بأنّ الخطر يداهمهم ممّا يسمّى «تكفيريين»، فانضمّ بعض الشبان إلى «سرايا المقاومة» بقرار فرديّ.
موقف جنبلاط… صمّام آمان
تردّدات الموقف – الزلزال لجنبلاط «أنا لا أعتبر «جبهة النصرة» إرهابية وهم مواطنون سوريون»، خلق نوعاً من شبكة أمان للدروز الموجودين في بعض المناطق السورية واللبنانية، على خلاف ما يُروَّج بعد معارك القنيطرة وجبل الشيخ التي استهدفت فيها فصائل الثوار قرى درزية بهدف إحكام الحصار على النظام، إلّا أنّ جيش النظام استخدم شباباً دروزاً، إن لم يرغمهم، على القتال إلى جانبه، بدليل أنّ البلدات والقرى التي يطغى عليها المكوّن الدرزي وتقع تحت سيطرة المعارضة مثل قرى ريف إدلب وبعض محافظات القنيطرة، تربطها علاقة طيّبة مع قوى المعارضة، والدروز مندمجون في محيطهم وبعضهم يعمل مع «الجيش السوري الحر».
أما بالنسبة إلى محافظة السويداء، فهي تحتضن عدداً كبيراً من النازحين من كل المحافظات السوريّة بأطيافها كافة، خصوصاً من محافظة درعا التي توافد منها ما لا يقلّ عن 300 ألف نازح إلى السويداء، أيْ ما يوازي عدد الدروز في المحافظة، وفق تقديرات شهيّب.
ويضيف: «أنّ موقف وليد جنبلاط كان من اليوم الأول مع ثورة الشعب السوري ضدّ نظام القتل والإجرام الأسدي، وهو دعا الدروز ولا يزال، إلى الانخراط في هذه الثورة. وفي أضعف الإيمان عدم الإنجرار لقتال أهلهم وجيرانهم، والتصدّي لمحاولات النظام المتكرّرة لزرع الفتنة تحت الشعار السخيف أيْ حماية الأقليات.
فهذا النظام الذي ضحّى بشباب الطائفة العلوية (بلغت الخسائر الموثّقة أكثر من 60 ألف شاب علوي)، لن يتوانى عن تحويل الدروز، كما كلّ مكوّنات الشعب السوري، وقوداً في حربه العبثية واستمرار نظامه».
استراتيجياً يستمرّ جنبلاط في مسك الحبل من طرفيه بين «حزب الله» و»جبهة النصرة»، متجنِّباً استعداء الطرفين المتناقضين والمنغمسين في حرب طاحنة ضدّ بعضهما البعض، ويلفت شهيّب إلى أنّ «حزب الله مكوّن لبناني، وسياسة الحزب التقدمي الإشتراكي تقضي بالتواصل والحوار في النقاط الخلافيّة مع الجميع.
أما «جبهة النصرة» فهي أحد أكبر الفصائل المقاتلة في سوريا، معظم قياداتها وعناصرها من أبناء الشعب السوري وقد خرجوا لمحاربة هذا النظام، وهم موجودون ولا أحد يستطيع إلغاءهم. نسجّل لوليد جنبلاط جرأته في الاعتراف بهم والطلب من الدولة اللبنانية مفاوضتهم لإطلاق جنودنا الأسرى الذين طال أسرهم، وعلى الدولة أن تقايض لإطلاقهم حرصاً على سلامتهم وسلامة أهلهم، وحفاظاً على الإستقرار ومنعاً للفتنة».
في مواجهة مشاريع التقسيم
من جهة أخرى، كثر الكلام أخيراً عن إنشاء دويلة درزية تمتدّ من الجبل والجولان والجليل وأجزاء من الجنوب اللبناني، حتى إنّ البعض بدأ يُحدّد معالم تلك الدويلة التي ترتسم في الأفق، علماً أنّ أكثر من يروّج لها هي الصحافة الاسرائيليّة والنظام السوري والتنظيمات التي تتقاطع بسياساتها مع الاهداف الاسرائيليّة.
هنا يسخر شهيّب من هذا الفكر قائلاً: «هذه الدويلة موجودة فقط في عقول وأذهان الموتورين، من أصحاب المشاريع المشبوهة عبر التاريخ. فالدروز أسقطوا مشروع الدولة الدرزية بثورة سلطان باشا الأطرش الوطنيّة، وكمال جنبلاط واجه مشاريع التقسيم حتّى الإستشهاد».
إذاً بين واقع صعب وأوهام أصحاب المشاريع المشبوهة، تُلصق بالدروز مخططات خبيثة لا تمت بصلة إلى تاريخهم، فهم انخرطوا في مجتمعهم العربي، وغالباً ما حاربوا محاولات التفريق والفئوية، ووقفوا بكلّ ما يستطيعون إلى جانب القضايا العادلة، لكن هذا لا يعني أنّ الأخطار المحدِقة بكل الأقليات في الشرق لا تهدّد وجودهم في صراع مفتوح على كلّ الإحتمالات.