IMLebanon

كلّ ما في دبي… ذكي

 

 

بلد القانون وأرض الفرص وقبلة اللبنانيين

 

في الجغرافيا لا تتخطى المسافة الفاصلة بين بيروت ودبي 2142 كلم أو حوالى أربع ساعات طيران، أما في الواقع فمئات السنوات الضوئية صارت تفصل ما بين البلدين. فلبنان المتقهقر أبداً الى الوراء والغائص نحو الأسفل بات عاجزاً تماماً عن ملاقاة إمارة تنظر الى فوق، الى السحب لتستجلبها مطراً وسلاماً، والى ما بعد بعد المستقبل لتشدّه إليها وتضعه في خدمة مواطنيها والمقيمين فيها. بين لبنان ودبي ما عاد ثمة مجال للمقارنة، فهو الذي كان وهي التي صارت…

أذكر دعوة تلقيتها يوماً مع مجموعة من الصحافيين اللبنانيين من قبل دائرة السياحة والتسويق التجاري في دبي لزيارة الإمارة، وكان الهدف تعريفنا يومها على فعاليات مهرجان «مفاجآت صيف دبي». كان ذلك منذ عشر سنوات تقريباً، وكانت دائرة السياحة شديدة الاهتمام باستضافة صحافة لبنان لتغطية المهرجان وتسويق نشاطاته عبر صحفها ومجلاتها التي يتابعها العالم العربي بأجمعه. حينها كان لبنان مرجعية تسعى البلدان العربية لنيل تقديرها وتحترم دورها وريادتها وتسعى لتسويق نفسها من خلالها. فما يرضي أهل لبنان وصحافته لا بد أن يرضي العالم أجمع ويكون على قدر التوقعات…

 

 

لبنان…للعطلة

 

ومنذ ذلك الوقت بدأت الأمور تسير في اتجاهين معاكسين، دبي تخطط المستقبل بخطوات ذكية وإدارة نظيفة واثقة، ولبنان يخطط لخزعبلات سياسية وسياسات مالية أوصلته الى أزمات لا بل أودت به نحو هاوية بلا قعر. وفي زيارة الى الإمارة الجميلة يتضّح تناقض المسارين بشكل صاعق: لبنان بصيفه وشتائه بات أرضاً جرداء جدباء ودبي بصيفها الدائم وحرّها باتت أرضاً غناء مليئة بالفرص للبنانيين الهاربين من أزماتهم والباحثين عن مستقبل. في الجغرافيا المقارنة لا تجوز فلبنان الأخضر، قطعة السما، لبنان الجبل والبحر، الأرز والثلج والغابات والأودية والأنهر جميل وجميل جداً، أما لبنان الرؤية والتخطيط، لبنان الطبقة السياسية والتجار والمصارف والميليشيا فقبيح جداً جداً ودبي أجمل وانقى وأذكى بكثير. اللبنانيون زائرون او مقيمون يلمسون ذلك لمس اليد وما عادوا يقارنون.

 

شبان، شابات وعائلات لبنانية تعيش هناك في الإمارة الذكية. يفكرون بلبنان من وقت الى آخر ويتابعون أخباره عبر مواقع التواصل وبعض محطاته التلفزيونية الفضائية لكنهم بسرعة يعودون الى يومياتهم وانشغالاتهم. لا يعيشون القهر اليومي الذي يعيشه اللبنانيون ويتشربون مرارته في كل لحظة من لحظات يومهم، يتأسفون على وضع أهلهم في لبنان وعلى وضع الكهرباء والماء والدولار… ثم يديرون المكيّف والمياه الساخنة ويطلبون الى البيت عبر التطبيقات المختلفة كل ما يحتاجونه من أغراض وقد يقومون بزيارة سريعة الى المول القريب ويخططون لعطلة نهاية الأسبوع وينسون لبنان ومشاكله. لا نلومهم إذ يصعب على من يعيش في الجنة أن يفكر بالنار. نحن الذين نعيش في لبنان نعتقد أن الكل قلبهم علينا، يسعون لإنقاذنا من محنتنا ويفكرون كيف يقدمون لنا المساعدة. لكن في الحقيقة حياتهم صارت هناك ولبنان بالنسبة إليهم محطة للعطلة وزيارة الأهل فقط.

 

باتوا جزءاً من البلد

 

كل من التقيتهم في دبي مسرورون بالعيش هناك، مرتاحون هانئون يفكرون في العودة ربما حين تستقر الأمور ويخرج لبنان من أزمته أما في الوقت الراهن فقد شطبوا بلدهم من لائحة أولوياتهم. الشاب «بينون» عاشق للبنان، ناشط إنساني واجتماعي ومدرب على الحياة يتنقل بين البلدين مجبراً. كان يودّ لو يبقى ويعمل في لبنان لكن الظروف أجبرته على أن يكون موجوداً في دبي، «وجعي أنني مضطر لأن أترك بلدي رغم عشقي له. بداية لم أتحمل الحياة هنا والأشهر الأولى التي أمضيتها بعيداً عن لبنان بعد الثورة كانت قاسية جداً. لكنني اليوم أجد أن الحياة في لبنان صارت شبه مستحيلة والدليل أنني هنا ولو كان بمقدوري العودة لما ترددت لكن في ظل الظروف الاقتصادية الحالية الحل الوحيد هو في العمل هنا «. بينون من القلائل الذين يعيشون قلباً وفكراً في لبنان رغم ابتعادهم الجسدي عنه، لكنه بدأ يعتاد على كل ما تقدمه الإمارة من مميزات لقاطنيها.

 

مروان، يارا، رانيا، كميل، صفاء وجنان وجدوا استقرارهم في المدينة الجميلة وباتوا جزءاً منها وهي جزء منهم ومن مستقبلهم. لا يفكرون بالعودة وإن تكررت زياراتهم الى لبنان في كل عطلة أو حتى نهاية اسبوع. لبنان هلالان جميلان يفتحونهما من وقت الى آخر وسرعان ما يغلقونهما ليتابعوا حياتهم.

 

مروان يتلقى يومياً اتصالات من أصدقاء ومعارف. شبان لبنانيون، يسألونه عن المتوافر من أعمال وأشغال في دبي.»كلهم يريدون المجيء الى هنا للعمل، لا يهمهم نوعه أو حتى راتبه مستعدون أن يعملوا في أي مجال شرط أن يخرجوا من لبنان. بعضهم يأتون و يجربون لكن حين يلمسون غلاء الحياة هنا والإيجارات وكلفة المعيشة يدركون أن الراتب الذي قبلوا به هرباً من لبنان بالكاد يكفيهم ليعيشوا» فاللبنانيون على خلاف سواهم من العمال الآسيويين أو الأفريقيين وغيرهم قلما يرضون العيش بظروف قاسية، قد يجتمع اثنان أو ثلاثة في شقة واحدة لكنهم لا يتكدسون فوق بعضهم في مساحة صغيرة يفضلون العودة الى بلادهم على أن يعيشوا مذلولين. ومعظم اللبنانيين في دبي موظفون وليسوا عمال، يحافظون على نمط حياة لائق ولو بالحد الأدنى ولا يرضون بأقل منه. بعضهم وبعضهن يصعب وصف وظائفهم كما قيل لنا، بسماسرة، وسطاء، مرافقين، مؤثرين وما شابه يجنون الكثير من الأموال ويتّبعون نمط حياة كان بالنسبة إليهم مجرد حلم في لبنان. فدبي أرض الفرص، ينجح فيها من يكد ويشتغل من الفجر الى النجر، كما ينجح أيضاً «الحربوق» الذي يحالفه الحظ ويعرف كيف يستغل بعض الفرص… قصص كثيرة سمعناها عن رجال ونساء ارتقوا نحو القمة بشكل سريع لم تعرف طرقه… ولكننا سمعنا قصصاً أيضاً عن أمهات أسسن في بيوتهن عملاً صغيراً من طهو او مجالسة أطفال وغيرها للمساعدة في تأمين معيشة لائقة للعائلة، وعن شباب يكتفون بالحد الأدنى من المصروف ليرسلوا الى الأهل مئتي دولار يقتطعونها من راتب بالكاد يكفيهم…

 

بيكفي إنك لبناني

 

لكن أن تكون لبنانياً في دبي تبقى ميزة لا يشاركك بها أي شعب عربي آخر. هنا المطعم اللبناني له نكهة خاصة تجذب السياح والمقيمين من كل مكان. وصالون التجميل والتزيين اللبناني هو مقصد الباحثات عن أبهى صور الجمال وتنسيق الحفلات على الطريقة اللبنانية هو الهدف الذي يضعه في باله كل من يرغب بإقامة مناسبة سعيدة. أما الفن والإعلام فلا يزال اللبنانيون أربابه، فالمجلات العالمية بنسختها العربية التي تصدر من دبي أبرز العاملين فيها من اللبنانيين وكذلك البرامج التلفزيونية الكبرى منفذوها ومعدّوها لبنانيون… تتنقل في المناطق فترى مطاعم كثيرة تحمل أسماء لبنانية ومتاجر تقدم مواد لبنانية لكن عند السؤال عن أصحابها يتبين لك أنهم في غالبيتهم من السوريين وبعض الفلسطينيين والأردنيين… لكن العابر في الأماكن السياحية الأكثر ازدحاماً يتعرف الى أسماء لبنانية عريقة، «عبد الوهاب، الفلمنكي، مروش، هياكل بعلبك، مولان دور، بربر، بوظة بشير وغيرها الكثير…» فمعظم المطاعم اللبنانية المشهورة بات لها فروع في دبي أو باعت اسمها لمستثمرين هناك رأوا فيها استثماراً مربحاً… وتبقى دبي في عيون من يزورها مدينة غريبة كأنها من عالم الواقع الافتراضي virtual reality، كل ما فيها ذكي: الأوتوسترادات الشاسعة الواسعة التي تستوفي حق المرور تلقائياً من كل سيارة تعبر عليها، مواقف السيارات الذكية التي ترصد السيارة ونمرها وتستوفي تسعيرة الموقف تلقائياً بعد أن تدل صاحبها على سيارته… التطبيقات الذكية التي تتيح لكل مواطن أو مقيم أن ينجز كافة معاملاته الرسمية أو المصرفية على هاتفه بلحظات دون الحاجة الى التواصل مع موظف او الانتقال الى موقع إدارة أو مصرف او التي تتيح له السفر وفق بطاقة هويته الإلكترونية ودون الحاجة حتى الى جواز سفر. تطبيقات التاكسيات التي لا يمكن التنقل في دبي من دونها تصل الى باب البيت بأقصى سرعة وتحتسب المسافة والتسعيرة و تستوفيهما سلفاً…

 

القانون أولاً

 

لا غش ولا من يغشون ولا سرقة ظاهرة او سارقين، الرقابة صارمة والكل يطبق القانون برضاه. رقابة صارمة لكنها لا تتجلى عبر وجود أمني أو عسكري يألفه اللبنانيون، إنما هي هيبة وحضور غير مرئي عبر كاميرات المراقبة المنتشرة في كل مكان وعبر الساتلايت، حضور يجبر الجميع على الالتزام. فما تقدمه البلاد لقاطنيها من ميزات كبرى تطلب مقابله إلتزاماً مطلقاً بالنظام والقانون… سيارات الشرطة في حال لاحظها المرء قد تكون مركونة في زاوية على جانب الطريق تراقب من بعيد وقد يرى شرطي وشرطية على حصانين يتنقلان في مكان سياحي للتأكد من أمن السياح وراحتهم. فهنا الشرطة كما روى لي أحد اللبنانيين friendly جداً تساعد، تسدي النصح وتسارع الى تلبية اي نداء يصلها ونادراً ما تقمع. فعند وقوع حادث سير تكون الشرطة أول الواصلين للمساعدة في إجلاء السيارات وكشف أسباب الحادث وطلب نقل المصابين الى المستشفيات.

 

لا شك أننا عاجزون عن رصد كل الإنجازات الذكية التي تعتمدها إمارة دبي والتي تفوق عقلنا اللبناني المحدود إلكترونياً، نحن الذين نتصارع يومياً مع الكونيكشن والواي فاي و الـ3G. واللبناني في دبي صار مثل «دويك» في المدينة يدهش لكل شيء وفي ذهنه يجري الحسابات بين الدرهم والليرة والدولار ويبكي حسرة وأسفاً…

 

ختاماً إذا شئنا اختصار دبي بكلمة واحدة فهي الوفرة. الوفرة في كل شيء في المال والتخطيط والحلم والأمن، الوفرة في البضائع والسوبرماركات والفنادق والبنايات وشبكات الطرقات والمطاعم والسياح والعمال. وفرة استطاعت أن تتغلب على الجغرافيا المسطحة لتنجز بلداً كأنه من المستقبل ونقاط جذب توازي بروعتها معالم سياحية عالمية عمرها قرون وقرون.هي الإمارة التي لا تنطفئ، ليلها نهار وأضواؤها دوماً مشعة…

 

وتحكون بعد عن اهتمام العالم بلبنان؟