IMLebanon

مستحقات فحوصات الـPCR: قرار بِقَطع آخر أنفاس الجامعة اللبنانية؟

 

 

على غموضه، تأكّد للخبراء أن فيروس كورونا ذو قدرة مذهلة على التكاثر والتجدّد والتكيّف. وهذا ما يجعل اختفاءه كلّياً أمراً بعيد المنال على ما يبدو. لكننا، مع ذلك، قد نفيق يوماً والفيروس قد اختفى بطريقة أو بأخرى. لكن الأدهى أن تطوّراً كهذا قد يحصل قبل وصول مسألة مستحقات الجامعة اللبنانية من فحوصات الـPCR إلى خواتيمها. المسألة معقّدة إلى هذا الحد؟ ليس بالضرورة. لكن المستحقات المقدّرة قيمتها بحوالى 50 مليون دولار ما زالت عالقة في دوامة النزاع القائم بين الجامعة المرهقة أصلاً والمديرية العامة للطيران المدني. والوقت يمرّ.

 

شركتا الخدمات الأرضية LAT وMEAG متمنّعتان عن دفع مستحقات الجامعة “فريش دولار” رغم القرار الواضح والصريح للمدّعي العام لدى ديوان المحاسبة، القاضي فوزي خميس، الذي يلزم الشركتين المذكورتين تسديد المبالغ المستحقة بالدولار الطازج. لكن هذه أولاً عودة سريعة إلى خلفية الموضوع. فقد أُوكلت الجامعة اللبنانية مهمة إجراء فحوصات الـPCR على الحدود البرية وفي المطار منذ تاريخ 13/10/2020. وبموجب الاتفاقية الموقّعة بينها وبين وزارة الصحة والمديرية العامة للطيران المدني، كانت الجامعة تتقاضى المبالغ المخصّصة لها بموجب شيكات بالدولار من قِبَل الشركتين المشغّلتين في المطار في وقت كان سعر صرف السوق السوداء حوالى 5000 ل.ل للدولار الواحد. الأمور استمرّت على هذه الحال إلى أن أخذت الليرة بالتقهقر بشكل دراماتيكي ليتخطى سعر صرف السوق السوداء الـ18000 ل.ل. عندها تمنَّعت الجامعة عن تسلّم أي مبلغ مالي إلى حين احتسابه على أساس سعر الصرف المستجدّ. ومن هنا أصل الحكاية.

 

في وقت تمسّك المدير العام للطيران المدني، المهندس فادي الحسن، بحرفية الاتفاقية آنفة الذكر والتي تنص على أن “تستوفي شركات الطيران قيمة فحص الـPCR من الركّاب القادمين، 50 دولاراً أو ما يعادله على سعر المنصة (أي 3900 ل.ل)”، تواصل رئيس الجامعة اللبنانية، الدكتور بسام بدران، مع الحسن، بعد أن بدأت شركات الطيران تتقاضى المبالغ بالدولار الطازج، مطالباً بتحويل مستحقات الجامعة بالدولار الطازج أيضاً. وبعد تعثّر المفاوضات، أُحيل الملف إلى القاضي خميس الذي طلب من الحسن بعد الاطّلاع على التفاصيل في شباط 2022 “وجوب التعميم بأسرع وقت على جميع شركات الطيران وشركات الخدمات الأرضية العاملة في مطار رفيق الحريري الدولي، بتحويل المبالغ المقبوضة بالدولار الفريش إلى حساب وزارة الصحة العامة والجامعة اللبنانية كي لا تثري هذه الشركات على حسابهما إثراءً غير مشروع، وذلك حفاظاً على الأموال العمومية وحرصاً على المصلحة العامة”.

 

قرابة ستة أشهر مرّت على صدور القرار، والتنفيذ ما زال معلّقاً إلى أجل غير مسمّى. فماذا يحصل؟

 

حقّ مشروع… مؤجّل التحصيل

 

توجّهنا بداية إلى النائب العام المالي، القاضي علي ابراهيم، الذي اعتبر في حديث لـ”نداء الوطن” أن المستحقات موضوع النزاع هي حق مشروع للجامعة اللبنانية وأن الأمور تسير على ما يبدو بشكلها الصحيح، شارحاً: “لقد اجتمعت برئيس الجامعة الأسبوع الماضي وهو يبذل قصارى جهده لتحصيل المبالغ المستحقة “فريش”. فالمنحى إيجابي بشكل عام”.

 

نتّكئ على تلك الإيجابية ونسأل عن المعوّقات التي تحول دون تجاوب الشركات الخاصة مع قرار المدّعي العام لدى ديوان المحاسبة. من وجهة نظر ابراهيم، الجميع معترف بالمستحقات إنما الإشكالية تتمحور حول طريقة الدفع. ويردف أن الجامعة تطالب بتحصيل مستحقاتها نقداً بالفريش دولار في حين أن الشركات المعنية تصرّ على تسديد هذه المستحقات بموجب شيك مصرفي. ما الحلّ إذاً؟ “الجامعة اللبنانية هي بحاجة ماسة للدولار الطازج ويجب منحها كافة حقوقها في ظل الأزمة التي تمرّ بها. بكلّ تجرّد أنحاز للجامعة كونها صاحبة الحق”، يجيب ابراهيم.

 

لا تعليق؟

 

حاولنا استمزاج رأي رئيس مجلس إدارة شركة طيران الشرق الأوسط، محمّد الحوت، الذي امتنع عن الكلام. وإذ أبدينا إصراراً لناحية معرفة الأسباب التي تتذرّع بها الشركات الخاصة في معرض التمنّع عن تسديد مستحقات الجامعة رغم قرار ديوان المحاسبة، أجاب: “الموضوع أصبح “معلوكاً” في الإعلام ولن أتكلّم به مجدداً، لن أعلّق على شيء”. حسناً، “معلوك”، لكنه لم يصل إلى أي نتيجة بعد، فما رأيكم، نستفسر؟ “الملف القانوني واضح وعلى الأمور أن تسلك مسارها القانوني”، يضيف. نسأل أخيراً عن “الملف القانوني” وما هو الواضح فيه، غير أن المكالمة تُنهى من الطرف الآخر قبل الحصول على إجابة. هذه أُنهيت على عَجَل لكن مكالمة أخرى تبدأ إذ لدى بدران الكثير ليقوله.

 

الكثير على المحكّ

 

في مستهلّ كلامه لـ”نداء الوطن” أكّد بدران التزامه بالقرار الذي سيصدر عن القاضي ابراهيم كون الملف أصبح في عهدته. ورأى أن تقاضي المبلغ بالفريش دولار هو من حق الجامعة، لا سيّما أن الأخيرة تمّمت جميع واجباتها وسدّدت تكاليف مشترياتها المستخدمة لإجراء فحوصات الـPCR “فريش” أيضاً. وأضاف: “عندما ندفع دولاراً طازجاً يجب أن نتقاضى كما دفعنا. وإلا لماذا قرّرت شركات الطيران في وقت من الأوقات التوقف عن التقاضي بالشيكات وأصرّت على التحوّل إلى الفريش؟ أن تعطينا هذه الشركات أموالنا من خلال شيكات مصرفية هو ظلم بحق الجامعة”.

 

للأمانة، أشار بدران إلى أنه جرى، منذ أسابيع قليلة، تحصيل مبلغ قدره 420 ألف دولار “فريش” من الأموال المتوجبة على شركات ثلاث عن طريق LAT وذلك من أصل مبلغ إجمالي يبلغ حوالى 12 مليون دولار. هذا المبلغ هو عبارة عن استحقاقات المسافرين عبر الشركات تلك خلال أشهر تموز وآب وأيلول من العام 2021. إلّا أن باقي الاستحقاقات التي يجب أن تغطّي حتى نهاية شهر كانون الأول 2021 لم تُسدَّد بعد. “إن دلّ ذلك على شيء فإنّما يدلّ على إيجابية الأمور وكأنه اعتراف ضمني بحق الجامعة بالتقاضي بالفريش. إنها الخطوة الأولى كي تسلك الأمور طريقها الصحيح. لذا ما زلنا نتابع المسألة مع القاضي ابراهيم وسنقوم بمراسلة مدير عام الطيران المدني للمتابعة معه أيضاً”.

 

يبدو جليّاً أن كل جهة تتسلّح بالناحية القانونية كما تراها من وجهة نظرها فيما، بحسب بدران، تتمسك الجامعة بحقوقها، لأن مصيرها، في ظلّ الأزمة التي ترزح تحت أعبائها، يبدو متوقفاً على ما ستؤول إليه التطوّرات.

 

أمدّونا بنَفَس الاستمرار

 

ماذا عن معاناة الجامعة وهل يمكن لهذه الأموال، في حال تحصيلها، أن تنتشلها من أزمتها؟ سؤال طرحناه على بدران، فجاءنا الجواب معبّراً: “الوضع صعب جداً، فمن شأن المبلغ بالطبع أن يساعد الجامعة. نحن بأمس الحاجة لتأمين المصاريف التشغيلية الأساسية من مازوت وصيانة وأوراق ومحابر لطباعة الأسئلة وإجراء الامتحانات. هذا إضافة إلى الدعم الذي يمكن أن نقدّمه إلى حدّ ما للأساتذة الجامعيين والموظفين ما يسمح لهم بالمضي قُدُماً رغم حراجة الموقف مانحين إياهم نَفَساً للاستمرار”.

 

عملية حسابية بسيطة، هنا، من حيث الأرقام. فالموازنة السنوية للجامعة اللبنانية تبلغ 366 مليار ليرة. بالمقابل، إذا تمكّنت من قبض مبلغ الـ50 مليون دولار موضوع البحث على سعر منصّة صيرفة – كون حسابات الجامعة موجودة لدى البنك المركزي ولا حسابات لديها في مصارف خاصة، وبالتالي فالأموال التي تحصّلها بالدولار، تُدفع لها بالليرة على سعر المنصّة – سوف تحصّل ما يقارب الـ1250 مليار ليرة، أي ما يعادل 3 إلى 4 أضعاف موازنتها السنوية. لكن الوقت داهم. فبدران يطالب بتحصيل الأموال المحقّة قبل أن تخسر الجامعة وجودها ومستقبلها: “أهمية الأموال بالنسبة لنا هي بأهمية الأوكسجين لشخص يختنق. نحن بحاجة إليها اليوم قبل الغد كي تتنفس الجامعة الصُعداء وتعود وتضخ الدم في المجتمع ما يمكّن الطلاب من متابعة دروسهم والتخرّج والانتقال من مرحلة إلى أخرى”، يلفت متابعاً.

 

بدران يختم حديثه رافعاً الصوت على اعتبار أن الجامعة تصارع وحدها: “يبدو أن هناك قراراً بذبح الجامعة اللبنانية من الوريد إلى الوريد وإلا ما هو تفسير المحاصرة التي تتعرّض لها؟”. المطلوب دعم الجامعة ومنحها الثقة. فهي التي حصلت على المرتبة الأولى في لبنان من حيث السمعة المهنية لطلابها. وانهيارها يعني انهيار مستقبل أكثر من 80 ألف طالب لعدم قدرتهم على الالتحاق بالجامعات الخاصة وتحمّل تكاليفها الباهظة. هذا دون التطرق إلى “أشباه الشهادات” الممنوحة هنا وهناك، والكلام دوماً لبدران.

 

لا للإخضاع، والتهويل والابتزاز

 

من يحاول إسقاط الجامعة اللبنانية؟ العضو القانوني في المرصد الشعبي لمكافحة الفساد، المحامي جاد طعمة، اعتبر في اتصال مع “نداء الوطن” أن الجامعة اليوم في وضع سيئ للغاية. فالمسؤولون في الدولة دون استثناء يديرون ظهورهم لاحتمال سقوطها المدوّي رغم وضوح الحقوق المالية التي من شأنها تمكين الجامعة وحفظ قدرتها على المواصلة. وأضاف: “هناك ما يرقى بجزء منه إلى مرتبة التواطؤ ضد حقوق الجامعة وابتزازها بغية إلزامها إجراء تسوية لمصلحة شبكات الفساد المرتبطة بالدولة العميقة والمنتفعين من الحلقات الضيقة المحيطة برجالات الدولة وبعض من اغتنوا على حساب المال العام”. وتساءل طعمة بعد أن باتت قضية فحوصات الـPCR تحت مجهر الرأي العام: هل ثمة اتفاقات موقّعة أم لا؟ هل هناك أموال نتجت عنها؟ هل ثمة من قبض المال وحجزه تحت يده دون وجه حق؟ ثم هل يجب تطبيق القانون أم الخضوع لمنطق الابتزاز؟

 

هو أشبه بتساؤل العارف. فالاتفاقية تعلن صراحة أن المديرية العامة للطيران المدني هي المسؤولة عن تحصيل أموال الجامعة من الشركات الخاصة وتسديدها لها بالدولار الطازج. كما أن المبدأ القانوني يقول إن العقد هو شريعة المتعاقدين؛ فتحصيل شركات الخدمات الأرضية الأموال من الوافدين بالدولار الفريش وتسديده للجامعة بالليرة أو عبر شيكات هو قمة في الابتزاز. ويكمل طعمة: “نحن هنا أمام فرض لمنطق الإخضاع على إدارة رسمية يجب أن تحظى بدعم القضاء، لا سيّما النيابة العامة المالية التي تستطيع فعل الكثير لو هي أرادت لأنها تأمر ولا تُؤمر. لكن للأسف باتت المسلّمات قابلة للنقاش منذ تكريس التساهل مع جمعية المصارف ومالكيها”.

 

نحن بالمحصّلة، وكما يُجمع مراقبون، إزاء 86 ألف طالب من أبناء عائلات لا تستطيع طرق أبواب الجامعات الخاصة ممّن يواجهون اليوم قراراً كبيراً بالتهويل على إدارة الجامعة اللبنانية لإخضاعها طوعاً أو بالإكراه. والحال أن تنازل الجامعة عن حقوقها المالية قد يضع إدارتها نفسها في موضع الشبهة. كيف لا في وقت يحتاج هذا الصرح المحوري إلى كل مورد مالي تعزيزاً لخدماته التعليمية وحفاظاً على الطاقم الأكاديمي الكفوء الذي يحمل الجامعة على أكتافه منذ سنين طوال. فأقلّ ما يقال عن أي تساهل تجاه عملية حجز الأموال تحت يد الشركات الخاصة دون أي مسوّغ قانوني أو شرعي إنه مرفوض قطعاً. حق يؤمل من إدارة الجامعة التشبّث به حتى الرمق الأخير.