يغادر الموفد الأممي ستيفان دوميستورا دمشق نهاية الشهر الجاري، مُنهياً ولايته التي عبرت مفتوحة على شتى المخاطر من دون ان يتطلّع الى الوراء، بعد ان يسلّم خلفه غير بيدرسون المهمة الثقيلة. ولعل التركة الأخطر التي سيورثها دوميستورا لخلفه قدرة الأمم المتحدة على توليد الدستور. فما الذي يعوقها؟ وما الذي تركه دوميستورا؟
يمكن لدوميستورا أن يروي لأحفاده وأصدقائه ومَن يلتقيه، في ما تبقّى من مرحلة خريف العمر التي ينوي الانتقال اليها، أنه كان الديبلوماسي الأممي الأقوى الذي نفّذ مهمات صعبة في سوريا، وانها كانت الأطوَل في تاريخ الموفدين الأممين الأربعة الذين سبقوه إليها. فبحسب من عرفوه وعملوا معه انّ على موظفي الأمم المتحدة أن يحتفلوا إذا أنجزوا مهماتهم في سوريا كاملة، وغادروها وهم بكامل قواهم الجسدية ومعنوياتهم.
قبل ان يغادر دوميستورا دمشق بعد 8 ايام، أطلق قبل يومين نداء تحذيريّاً اختصَر «قمة العقد» التي واجهته في سوريا، قال فيه: «قد يتعيّن على المنظّمة الدولية التخلي عن جهودها الرامية الى تشكيل لجنة تعمل على صَوغ دستور جديد لسوريا، إذا لم يتم الاتفاق على هذا الشأن قبل نهاية كانون الأول المقبل».
وعليه، لماذا وصل دوميستورا الى هذه النتيجة؟ وما هي الرسالة الي أراد أن يوجّهها الى خلفه والمجتمع الدولي؟
قبل شهرين تقريباً التقى دوميستورا وزير الخارجية السوري وليد المعلّم في موعد طال انتظاره، ليبني عليه موقفاً نهائياً من مصير مهمته في دمشق. كان دوميستورا قد بذل جهداً كبيراً لترتيب هذا الموعد، سَعياً الى موقف نهائي من تشكيل «اللجنة الدستورية» التي ستضع الدستور الجديد تتويجاً للجهود التي بذلت في أكثر من مكان منذ 3 سنوات على الأقل. لكنه فوجىء بموقف سوري متشدّد من شكل اللجنة وهوية أعضائها ومهماتها، مُتجاهلاً الجهود التي بذلت قبل الوصول الى هذه المرحلة. وقد أقرّ دوميستورا علناً، في إحاطة تلفزيونية أجراها أمام مجلس الأمن الدولي، أنّ المعلم لم يوافق على دور للأمم المتحدة في اختيار اللائحة الثالثة، وأنّ الحكومة السورية رفضت سابقاً عروض الأمم المتحدة للبحث في اللجنة الدستورية مباشرة معها.
وفي المعلومات التفصيلية، أنّ ملاحظات النظام السوري تركزت على هوية بعض أعضاء اللجنة التي ستضمّ، الى جانب 50 شخصية اختارتهم الحكومة السورية الحالية، 50 آخرين من ممثلي المعارضة وعدد مماثل مِمّن ستسمّيهم الأمم المتحدة من ممثّلين للمجتمع المدني وخبراء دستوريين. كذلك تساءل المعلّم عن المعايير التي ستعتمدها المنظمة الأممية في تسميتهم. والى رفضه معظم الأسماء التي اختارتها المعارضة، شَكّك المعلم بدور الامم المتحدة، وما إذا كان لها حق المشاركة في بناء دستور جديد لمستقبل سوريا، بالإضافة الى المخاطر الناجمة عن تسمية مندوبين من المجتمع المدني الذي لم يعترف بوجوده النظام السوري يوماً. ففي نظر النظام، هناك معارضة مقبولة وأخرى غير مقبولة، ولا يمكن ان تقبل الحكومة السورية بمهمة تقوم بها مجموعة من هذا النوع لصَوغ الدستور الجديد لدولة يقول إنها «ذات سيادة ولم تسقط بعد».
كان ذلك، قبل أيام قليلة من عقد القمة الرباعية في اسطنبول في 27 تشرين الأول الماضي، فتجاوب أطرافها الأربعة الروس ومعهم المانيا وفرنسا وتركيا مع رغبة دوميستورا، عندما دعا بيانها الختامي الى الاسراع في تشكيل اللجنة الدستورية قبل نهاية السنة الجارية، وتسهيل وصول المساعدات الانسانية الى سوريا. فالجميع يدرك، وخصوصاً الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، انّ القرار بتأليف «اللجنة الدستورية» تَوّج عملاً مضنياً بقرار اتّخذ في قمة سوتشي الأخيرة التي عقدت منتصف كانون الثاني الماضي، لتشكّل أولى الخطوات العملية التي تمهد لمرحلة البحث في الحل السياسي.
عند هذه المعطيات توقفت الجهود المبذولة، وبناء لطلب دوميستورا أوفدَ بوتين في 4 الشهر الجاري مبعوثه الخاص الى سوريا ألكسندر لافرنتييف للقاء الرئيس بشار الأسد، لإطلاعه على نتائج القمة الرباعية وما شهدته من محادثات، خصوصاً انها انتهت الى الدعوة لتشكيل اللجنة الدستورية «قبل نهاية السنة» في إطار المساعي لتسوية النزاع السوري. ومن دون الاعلان عن أي خطوات عملية جديدة، اكتفَت الرئاسة السورية بالتأكيد انّ البحث تناول «موضوع تشكيل لجنة مناقشة الدستور الحالي». وتم الاتفاق «على مواصلة العمل المشترك بين روسيا وسوريا لإزالة العوائق التي ما زالت تقف في وجه تشكيل هذه اللجنة».
عند هذا الاعتراف السوري بضرورة حصر البحث في الدستور الجديد بين دمشق وموسكو من دون أي طرف آخر، تَيقّنَ دوميستورا انّ مهمة الامم المتحدة انتهت وإن لم تتخذ موسكو قراراً كبيراً بإحيائها. وعليه، انتهت المراجع الأممية الى القول «انّ أخطر ما سيواجهه المبعوث الأممي ان تكون موسكو قد اقتنعت بوجهة نظر السوريين، وحصرت مهمة إعداد الدستور الجديد بها من دون ان يكون للأمم المتحدة أي دور».
ولا تستغرب المراجع الأممية هذه النتيجة «المأسوية»، فلربما قررت روسيا ان تواجه الامم المتحدة بهذا المنطق رداً على سياسات واشنطن وحلفائها. فاستمرار واشنطن في فرض عقوباتها على موسكو وأطراف أخرى تؤثر في مجرى الأحداث السورية، قد يستدرج الروس الى اختيار الساحة السورية للمواجهة معها، فتكون الامم المتحدة ودورها أولى الضحايا في المواجهة الجديدة بين الطرفين.