طبيعي أن يقول وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف إنّ بلاده «لن تبادر بإشعال الحرب» مع الأميركيين.. وطبيعي أيضاً أن يسبقه مستشار «المرشد»، وزير الخارجية الأسبق علي ولايتي بمطالعة التحدي المعهودة في الأدبيات الإيرانية، والتي تدمج الأنف بالتراب لكن من جهة التمريغ وليس الصلاة!
والموقفان بعيدان عن الغرابة وجزء من المألوف في سلوك إيران على مدى السنوات الماضيات والذي يصعب كثيراً، وجود شبيه لازدواجيته في اي دولة معاصرة.
ولايتي ذكّر الرئيس الأميركي دونالد ترامب بأسلافه الذين «مُرّغت أنوفهم» في تراب أفغانستان والعراق وغيرهما. وموقفه رسمي من دون شك ويعبّر عن وجهة نظر «المرشد» وكل الفريق المحافظ المتوجّس أصلاً من أي انفتاح على الخارج قد يستدعي حُكماً انفتاحاً في الداخل يميل بدفّة الحكم والسيطرة من جهة الى جهة، ويعطي الفريق الإصلاحي شرف حلّ المشاكل والمآزق التي أنتجتها سياسات أخصامه (في كل ذلك الفريق) مع القريب والبعيد، وعلى كل المستويات وفي كل المجالات!
لكن ظريف أيضاً، لم ينطق بصفته الشخصية وإنما بصفته وزيراً للخارجية! وموقفه رسمي (من دون شك!) ويعبّر عن سياسة مركزية يُفترض أنها موصولة بدورها بأرفع مراجع ومراكز القرار!
قد يكون الأمر الازدواجي هذا، مألوفاً في أي دولة تشعر أنها «مُهدّدة»: تعتمد التحذير والتطمين معاً، أي تعلن «استعدادها للمواجهة لكنها تُعلن في الوقت نفسه عدم رغبتها في تلك المواجهة.. سوى أن إيران ليست كذلك! وسياستها الخارجية مبنيّة على ازدواجية متناقضة، أصيلة ومنهجية ومرتبطة بأهداف وغايات إستراتيجية وليست عابرة أو عارضه أو يمكن إدراجها في سياق الفعل وردّ الفعل.
وتلك واحدة من أبرز عناوين محنة العرب والمسلمين، قبل الأميركيين والغربيين، في التعامل مع إيران على مدى السنوات الماضيات، والتي أنتجت في المحصلة أزمة ثقة لا مثيل لها: إيران «دولة» و «ثورة»، ولكل مقام مقال! تلتزم أصول العلاقات بين «الدول» حيث لا تقدر على العكس. وتعتمد أدبيات وأصول «الثورة» حيث تقدر! والمعضلة المستدامة هي أن تلك «القدرة» لا تخرج في المخيال الثوري الإيراني عن حدود الجغرافيا والديموغرافيا العربية والإسلامية! بل أن إيران تسعى الى تحطيم الجوار من أجل بناء حيثيّة توازيها مع الكبار!
في بعض تفاصيل تلك الازدواجية، أن المفاوض الإيراني فعل كل شيء (تقريباً!) من أجل التوصل الى «الاتفاق النووي» وملحقاته، وإعادة وصل ما انقطع مع «المجتمع الدولي»، ملتزماً شروط ذلك الوصل، سياسياً وديبلوماسياً ومالياً وتجارياً.. الخ.. لكنه بدل أن يتمم ذلك الوصل مع جيرانه وأهل «أمّته»، ذهب الى العكس تماماً: إفترض أن أداء «الدولة» مع البعيد يساعده على الاستمرار في أداء «الثورة» مع القريب! حتى لو كان أداء «الثورة» هذا موروثاً عن أداء الشاه الذي قامت ضده تلك «الثورة» أصلاً! وأول ذلك لعب دور المحور أو القطب الذي تدور حوله مجموعة محاور أو أقطاب متنافرة وضعيفة وفي حاجة دائمة إليه باعتباره «الأقوى» و «الأقدر» على حفظ الأمن والاستقرار أو نسفهما بكل بساطة!
سعّر إنكفاء باراك أوباما ذلك الأداء ودفع به الى ذراه.. لكن دونالد ترامب اليوم يقول شيئاً آخر: لا يفصل في الاداء بين إيران «الدولة» وإيران «الثورة»، بل يعلن أنه سيتعامل مع الأمر بالجملة ومن حيث المبدأ. ومن ذلك مثلاً، التوعد بالرد على الاعتداء الذي طال الفرقاطة السعودية، وتجربة الإطلاق الصاروخية، واضعاً بذلك معادلة مضادة:«إزدواجية» تربط مصالح الولايات المتحدة بمصالح حلفائها في المنطقة، في وجه «إزدواجية» إيرانية صارت (في عُرفه) غير ذي جدوى، و«عفا عليها الزمن»!