ارتفعت حرارة السباق بين المؤشرات الاقتصادية والمالية السلبية وبين محاولات أهل السلطة لجم الاحتمالات الدراماتيكية، فيما يبدو انّ التصنيف المرتقب للبنان هو الذي سيحسم هذه الجولة من السباق، في انتظار الجولات المقبلة التي ستُختَبر خلالها «لياقة» الدولة اللبنانية ومقدار جدّيتها في مواجهة «التحدّيات المصيرية». ولكن، هل حسابات الورقة والقلم هي الممر الالزامي والوحيد نحو الإنقاذ ام انّ «الخيارات الصادمة» قد تختصر احياناً المسافات؟
يعتبر المغامرون من المتحمسين لقلب الطاولة، أنّ الانهيار، وعلى الرغم من تداعياته ومساوئه، قد يكون أفضل من البقاء وقتاً إضافياً في وضع الاحتضار الذي يرتّب بدوره تكاليف باهظة، لا يخفّف من وطأتها انّها تُدفع بالتقسيط، خلافاً لفاتورة الانهيار التي تُسدد دفعة واحدة.
بالنسبة الى هؤلاء، ربما يشكّل الانهيار فرصة لنسف كامل لمنظومة الفساد والعجز المتجذّرة التي لم يعد ممكناً التخلّص منها إلّا باعتماد خيار الاستئصال، على ان يُعاد بعد ذلك البناء على الانقاض، في حين انّ كل المعالجات المطروحة هي من نوع الترميم والترقيع لما هو قائم، الامر الذي يعني أنّ الازمات ستكون قابلة للتجدّد مستقبلاً ما دامت جذورها لم تُقتلَع.
ويعترف اصحاب هذا «الطرح الانقلابي» بأنّ خطورة الانهيار تكمن في انه سيجرف معه الطبقة الفقيرة التي ستدفع ثمنه أكثر من غيرها، كونها تشكّل الخاصرة الرخوة والحلقة الاضعف. لكن العزاء الوحيد في رأيهم انّ هناك توقعات بأن يعاود الاقتصاد النهوض بعد بضعة أشهر.
ويلفت «المجازفون» من اصحاب نظرية «الهدم والبناء» الى انّ أعباء الاستنزاف في الاقتصاد والمال صارت كبيرة جداً، والتعايش معها يزداد صعوبة مع مرور الوقت وتراجع القدرة على الاستمرار في التنفس الاصطناعي. والاسوأ أنّ هذه الاعباء مرشّحة لمزيد من التفاقم في المرحلة المقبلة، حيث تنتظر لبنان استحقاقات مالية صعبة تتعلق بخدمة الدين الى جانب تحدّيات أخرى.
بالطبع، يتهيّب الرؤساء الثلاثة سيناريو الفوضى، وفي طليعتهم الرئيس ميشال عون الذي يحمل العهد اسمه وتوقيعه، وبالتالي لا يتحمّل ان يورد التاريخ انّ الانهيار الكبير حصل في ولايته، وهو الذي أتى الى سدّة الحكم تحت شعار تحقيق الإنقاذ.
وعليه، يمكن فهم حماسة عون للاتفاق الاقتصادي – المالي الذي أُقرّ في اجتماع قصر بعبدا برئاسته، وفي حضور الرئيسين نبيه بري وسعد الحريري والخبراء المعنيين، سعياً الى احتواء المخاطر قبل فقدان السيطرة عليها. بهذا المعنى، يحاول عون جاهداً عدم التخلّي، تحت وطأة الضغوط المتراكمة، عن زمام المبادرة، لانّه يعلم انّ ذلك لو حصل، سيشرّع الباب امام إملاءات دولية تبدأ من الخيارات الاقتصادية وتنتهي عند السياسية.
ويتمسّك عون بتثبيت سعر صرف الليرة على الرغم من انّ هناك من يهمس له بين الحين والآخر بأنّ الافضل «استراتيجياً» تحرير سعرها، لأنّ من شأن ذلك ان يساهم في معالجة جزء من الدين العام، على ان يترافق اطلاق العنان لليرة مع اجراءات متزامنة من نوع منع تحويل الودائع بالدولار الى الخارج، علماً أنّ بعض التقديرات المتشائمة ترجّح ان يرتفع سعر الدولار حينها الى 1800 ليرة في مرحلة اولى، ثم قد يحطم ارقاماً قياسية في وثباته، متى أصبح هائماً خارج «جاذبية» قواعد التحكّم والسيطرة، وهذه مغامرة يهاب أصحاب القرار الانخراط فيها وتحمّل تبعاتها، مهما سعى البعض الى «تزيينها»،على قاعدة انّ الضرروات تبيح المحظورات.
ووفق تقديرات القريبين من عون، فهو يتوقع ان يرضخ المكابرون والمناورون لمتطلبات الاصلاح ومكافحة الفساد في الاشهر المقبلة، بعد أن يكونوا قد اقتنعوا بأنّ الانفجار الاقتصادي والاجتماعي بات قريباً، وانّ المكتسبات والأموال التي جنوها على امتداد عقود من الاستثمار في الفساد ستصبح عندها في مهبّ الريح، الامر الذي سيدفعهم من باب البراغماتية والواقعية الى تقديم تنازلات اضطرارية حتى لا يخسروا كل شيء في نهاية المطاف.
وعون، الذي كان متحمساً في السابق لتغيير حاكم مصرف لبنان رياض سلامة لم يعدل عن رأيه، إلّا ليكون «الحاكم» شريكاً بدوره في تحمّل المسؤولية عن مستقبل الوضع المالي والعلاج المفترض له، بدل اعفائه منها، خصوصاً انّه مهندس السياسات المالية والنقدية التي ساهمت في الوصول الى المعادلة الحالية، كما يصنّفه أنصار رئيس الجمهورية.
وإذا كان كثر يراهنون على «تسييل» مشاريع مؤتمر «سيدر» قريباً لضخ كمية من الدم النظيف في عروق الاقتصاد المتهالك وانقاذه من التدحرج الى الهاوية، إلّا انّ هناك من يلفت في المقابل الى انّ الوظيفة الأساسية لهذا المؤتمر تتصل بمساعدة النازحين السوريين في المجتمعات اللبنانية التي تستضيفهم أكثر مما تحاكي هموم المواطنين اللبنانيين. ولذلك، لا ينصح المرتابون في حقيقة أهداف «سيدر» بالمبالغة او الافراط في الاتكال عليه، مشيرين الى أنّ خطة ماكينزي هي أشد اتصالاً والتصاقاً بالاحتياجات الحقيقية للبنان وقطاعاته الحيوية.