الحيوية السياسية الفائقة التي برزت قبل نحو اسبوعين توشك ان تكون ملك الشارع حصراً، فهي تأبى ان تبارحه وتجهد لتجديد نفسها وتسعى لتزخيم قوتها وتحرص على الانتقال من مكان الى آخر، وتنتج قضايا وتستولد هيئات ورموزا بعدما جذبت شرائح واسعة عابرة للطوائف على نحو اعاد الى ذاكرة البعض مرحلة صعود تيارات الرفض والاعتراض والدعوة الى التغيير في عقد الستينات والنصف الاول من عقد السبعينات من القرن الآفل، وهي مرحلة كانت ولا ريب مفعمة بالامل وزاخرة بوعود التغيير والاحلام الوردية.
حيوية فوارة ألقت بثقلها على المشهد السياسي العام ووضعت نفسها وجها لوجه في حال تصادم ومواجهة مع السلطة المنهكة اصلا والمثقلة بإرث الخيبات. وحيال ذلك ذهب البعض في رحلة بحث وتوصيف لهذا الواقع “الثوري” المستجد في الشارع ليضعه في خانة “الربيع العربي” ولو بمفعول رجعي، مستذكرا مشاهد وصوراً مماثلة عاينها الناس في شوارع القاهرة وتونس وصنعاء وسواها من عواصم العرب التي دغدغها ذات حقبة نسيم صباحات هذا الربيع الذي طال انتظاره.
ولكن ثمة في اوساط سياسية معينة من بدأت تنتابه الهواجس والمخاوف من هذا الحراك المستجد استناداً الى النتائج المرة لتجارب الماضي القريب في دنيا العرب، اذ ان هذا الربيع سرعان ما استحال شتاء امطر عنفا وأنهاراً من الدماء ومساحات مذهلة من اليباب والخراب استوطن بعض البلاد من اعوام خمسة جاعلا اياها كعصف مأكول. ثمة في السلطة وفي دوائر احزاب وقوى من رفع صوته عاليا في الايام القليلة الماضية للتحذير من التداعيات المحتملة للعبة الشارع المحتدم وكلها تندرج في خانة الاحتمالات السلبية.
وفي كل الاحوال بدأ واضحا انه منذ 22 آب الماضي ابدى الشارع اصرارا غير مألوف على المضي قدما بما بدأه، وفي المقابل ذهبت السلطة بكل مكوناتها في رحلة بحث صعبة عن سبل لاستيعاب هذا الحراك وامتصاص حيوياته الزائدة وتالياً لدرء اخطار حراكه المحتملة.
بعد مضي أسبوعين على الحراك وتسجيله ضربات ناجحة في مرمى السلطة، أنس الشارع الملتهب من نفسه قوة وثقة اكبر من اي وقت مضى. لذا لم يعد خافيا انه اراد بعجالة ان يدحض رهان من توقع ان “ينفّس” ويسترخي سريعا او ان تنجح السلطة في بعثرته وتوهينه، فكان ان بذل خلال الاسبوع الماضي جهدا مضاعفا ليثبت لمن يعنيهم الامر انه ما فتئ في عنفوانه ينقل حراكه من منطقة الى اخرى ويطور شعاراته ويجترح افكارا جديدة ويحرص على “استقلاليته” وعدم وقوعه في فلك اية تأثيرات حزبية. وقد زاد من وتيرة “نشوته” الاهتمام الاعلامي المحلي ومواكبته له والتركيز الدولي عليه وتركيز عواصم قرار مثل واشنطن وباريس من مغبة قمعه. باختصار احس الحراك انه اكتسب سريعا حصانة دولية على غرار الثورات الملونة التي هبت في عواصم عدة في العقد الاخير.
لذا لم يكن مفاجئا ان يرفض هذا الحراك فتح ابواب الحوار مع من يطرحون انفسهم شركاءه في الهم، مستأنسا بصفة انه معاد لكل القوى “السلطوية” وانه لا يميز ولا يفاضل بينها، فهي عنده سواء أكانت في اصل سلطة الطائف أم وفدت بالامس، ومستأنسا ايضا بحال الارباك لدى السلطة وهي تحاول مغازلته تارة واستغلاله تارة اخرى، وتسعى طورا لقمعه ومواجهته بالعين الحمراء.
باختصار، يسعى هذا الحراك الى الحفاظ على زخمه والى عمليات اختراقه من داخله او جعله تحت وطأة الترهيب والترغيب اللذين تمارسهما السلطة بكل تلاوينها.
وعليه تناسى اطراف هذه السلطة تناقضاتهم وتجاوزوا خلافاتهم وذهبوا معا في رحلة محاصرته والتخفيف من ألقه والتشكيك به باعتباره صنيعة سفارات ونتاج غرف سوداء في دول قصية.
بعض اطراف هذه السلطة ولا سيما “تيار المستقبل” استفزه الحراك الى درجة انه اوقعه في التناقض الداخلي حيال عملية تنسيبه لجهة معينة واعتباره تصفية حسابات بين دول اقليمية. وفي كل الاحوال كان “التيار الازرق” ولا يزال مربكا في مقاربة هذا الحراك.
اما “التيار الوطني الحر” فتبوأ الدرجة الاعلى من التوجس من هذا الحراك اذ كان السباق الى انتقاده بمرارة وصراحة واعتباره صنع سفارات وجهات اجنبية وكل ذلك استناداً الى قناعة فحواها ان الحراك أتى ليكون في سياق ينتهي بلعبة ما في الشارع فتسارع الدول الى استصدار قرار او اتفاق يملي عملية انتخاب رئيس جديد باعتبار الفراغ الرئاسي أسّ المشاكل ورأس المعاصي التي ثوّرت الشارع فتفلت من يد التيار فرصة ما زال يعتقد انها ما برحت سانحة. وعليه كان قرار التيار بتظاهرة (أمس) لملء الشارع واظهار ان ثمة شارعاً آخر بمقدوره ان ينهي حصرية استئثار الحراك بهذا الشارع.
ولـ”حزب الله” ايضا هواجسه الكبرى، ولكنه كعادته كان بارعاً في كتمان هذه الهواجس فشرع على الفور في رحلة مقاربة واقعية لهذا الحراك وما ينطوي عليه من احتمالات عبر عناوين عريضة ابرزها عدم مصادمته مباشرة والحرص على عدم وجوده في الخندق المقابل مع إطلاق سلسلة تساؤلات وعلامات استفهام حول ماهية هذا الحراك ومستقبله ومن يمسك بناصية قراره ومن يموله ويرفده، من دون ان يغفل احقية هذا الحراك ومبررات دوافعه كونه ينطلق من اوجاع الناس ومعاناتهم الطويلة مع سلطة غرقت حتى اذنيها في لجة الفساد.
وفي الغرف المغلقة كانت للحزب حساباته الدقيقة مركزاً على امرين: الاول هل يمكن ان يتدحرج الحراك من شعار ازالة النفايات ليصل الى حد المطالبة بازالة السلاح من يد الحزب على غرار ما سارت عليه الامور بعد 14 آذار عام 2005؟ والثاني هل يطغى الحراك على الواقع اللبناني ليخفي قضايا جوهرية مجمعا عليها مثل خطر الارهاب، وبالتالي يصير الحراك مدخلا لعودة وصاية دولية عبر استصدار قرارات معينة تفرض فرضا؟ وعليه لم يكن الحزب غريبا عن قوى وهيئات ولجت باب الحراك سريعا واخذت حيزا في ساحته ليكون لها دور في تحديد مسار الحراك لاحقا والحيلولة دون احتلاله المشهد.
وحده رئيس مجلس النواب نبيه بري قدّم، بحسب مقربين منه، حبل الانقاذ للسلطة وللجميع من خلال مبادرته التي استدعت الجميع الى طاولة حوار من شأنها كما يرى هؤلاء ان تسترد السياسة من الشارع الى الطاولات الرسمية بصرف النظر عن نتائجها، ومن شأنها ايضا ان تثبت ان اركان السلطة قادرون على المبادرة والفعل.
فهل ينجح الشارع في اثبات نفسه موازياً لسلطة استهلكها الانهاك واستغرقها العجز والاسترخاء الى درجة انها استخفت بأي خطر واستبعدت اي حراك، ام ان هذا الشارع النابض الان سيتحول تدريجا شارعاً جديداً يضاف الى الشوارع المتعددة؟