في أيّ دولة ديموقراطيّة طبيعيّة في العالم، يأتي حل الازمات الكبرى التي تفرض اشكاليات ثقة او مشروعية بين المواطنين والمجموعة الحاكمة على شكل انتخابات نيابية مبكرة، تعيد انتاج السلطة. فإما يعاد تأكيد احقيّة الحزب او التحالف الحاكم بالمضيّ قدماً بمشروعيه، واما يسقط بالإرادة الشعبية ويتم إذا تعديل النهج والمسار المتّبع. حصل ذلك في بريطانيا مرتين منذ العام 2017، برغم إقرار البرلمان البريطاني قانون تثبيت المدة الزمنية لمجلس النواب عام 2011، والذي هدف الى الحدّ من الاقبال الزائد على الانتخابات المبكّرة. لكن ازمة “بريكسيت” فرضت نفسها: دعت رئيسة الوزراء تيريزا ميّ الى انتخابات لتأكيد الدعم الشعبي لرؤيتها للخروج من الاتحاد الاوروبي، وكانت النتيجة اضعاف حضورها النيابي ما مهّد لاستبدالها ببوريس جونسون، الذي بدوره دعا الى انتخابات تجرى في كانون الاوّل، تكون بمثابة استفتاء على خياراته التفاوضيّة تجاه الاتحاد الأوروبي. هذا لا ينطبق فقط على دول “الموالاة والمعارضة”. في شمال ايرلندا أيضاً، حيث الديموقراطيّة التشاركية وحكومات الوحدة الوطنية الدائمة المفروضة دستورياً، أدى سقوط الحكومة باستقالة نائب رئيسها عام 2017الى انتخابات مبكّرة. اللائحة تطول لتشمل عشرات الدول في كلّ اصقاع الأرض.
ثورة “17 تشرين”
تواجه السلطة السياسية ثورة “17تشرين” بمزيج من النكران والتكبّر، الممزوج بمحاولات القمع الفاشلة، والمعطوفة على سلسلة من محاولات زرع الافخاخ، من طلب تعيين قادة للحراك الى تمنّي حصر التظاهرات بالساحات العامة. لكن الفخ الأبرز الذي اطل به امين عام “حزب الله” حسن نصر الله هو طرح استحالة اجراء انتخابات نيابيّة مبكّرة من دون الاتفاق على قانون انتخابيّ جديد. ربّما ذاكرة نصرالله لم تسعفه، لأنها لو فعلت لتذكّر ان القانون الحالي اقرّ بالظاهر لتأمين حقوق المسيحيين لكن هدفه الفعليّ كان السماح للحزب بالإتيان بأغلبية نيابيّة تحمي سلاحه و خياراته الاقليميّة، عبر السماح لحلفائه من مختلف الطوائف من اختراق احاديّة التمثيل “الاكثري” فيما هو يبقي على طائفته “مقفلة” لا يخرق “خياراتها المقاومة” أي من “شيعة السفارات”. وهنا يطرح السؤال الأهم: ان كنا لا نستطيع اجراء انتخابات الا على قانون جديد، فكيف سنستطيع انتخاب مجلس نوّاب جديد في العام 2022؟ الجواب واضح ما بين سطور نصر الله: حليفي المسيحي انهار، فإما قانون انتخابات يؤمن لي اكثريّة من دون “العونيّة السياسية”، او لا انتخابات الى ان يقضي الله امراً كان مفعولاً.
لا توجد دولة في العالم تبتكر قانون انتخاب جديد في كل دورة انتخابيّة، بل ان مسألة تغيير قوانين الانتخاب بمثابة تغيير الدساتير والانظمة السياسيّة، يحصل فقط عند الضرورة القصوى وفي معظم الأحيان لمرّة واحدة فقط، كالانتقال من النظام الاكثري الى النظام النسبيّ. ولذلك الهدف الآني من طرح مسألة تعديل القانون هو منع اجراء انتخابات نيابيّة مبكّرة، وإيجاد شرخ في الجوّ الثوري بين من يؤيّد جعل لبنان دائرة واحدة وبين من يدعو الى استغلال الفرصة التاريخيّة وفق القانون الحالي. كما انّه يهدف الى استنفار العصب الطائفي المتخوّف من تغيير القانون بسبب هواجس “التمثيل الصحيح”، والتمهيد لتأجيل انتخابات 2022ان لم يكن الجوّ المحلّي والإقليمي مؤاتياً.
“لبنان دائرة واحدة”
يجتمع “حزب الله” والمجتمع المدني على قانون “لبنان دائرة واحدة مع نسبية “، ولكن لأهداف متناقضة تماماً. “حزب الله” لا يعنيه البعد اللاطائفي من الموضوع طبعاً، بل يريد استعمال فائض الأصوات “الضائعة” التي بحوزته – جزئياً بسبب عدم وجود منافسة انتخابية حقيقيّة داخل الطائفة الشيعيّة – والتفوّق الديموغرافي الطائفي تصويتاً من اجل اختيار نوّاب من خارج طائفته يضمنون له حماية سياسيّة لحضوره الميليشيوي. طبعاً لا مشكلة مبدئية في انتخاب مواطنين من طائفة للممثلين من طوائف أخرى، لو كان ذاك المبدأ ساري عملياً على الجميع (مبدأ reciprocity)، لكنه “حق مكتسب” من طرف واحد، ما يجعله غير عادل وغير ديموقراطي. المجتمع المدني يهمّه البعد الوطني للقانون، العابر للمناطق والطوائف، والذي يؤمن له القدرة على اختراقات جديّة نظراً لعدم تمركز الجو الشعبي الداعم له في مناطق محدّدة. وهو في ذلك محقّ طبعاً في الجانب المعنويّ والقيميّ من النقاش.
في الدول حيث تبرز الانقسامات الطائفية والعرقية واللغويّة، لم يتم ابداً اعتماد عموم البلاد دائرة انتخابية واحدة: من سويسرا الى كندا مروراً بالبوسنة وشمال ايرلندا وبلجيكا وغيرها الكثير من الدول. كما ان الكثير من الأكاديميين الليبيراليين – من أمثال بنجامين رايلي ودانييل هورويتز و جيوفاني سارتوري – اعتبروا ان قانون انتخابات يعتمد الدائرة الواحدة مع نسبيّة في هذه الدول هو بالفعل القانون الأكثر طائفيّة، لأن من ضمن علّاته انه يلغي البعد المناطقي للانتماءات الذي يشكّل – في ظل غياب أحزاب كبرى لاطائفيّة – المنافس العملي الوحيد للحملات الانتخابيّة التي تقوم على أسس طائفيّة محض. يقول رايلي ان المجموعات المدنيّة والليبيراليّة عليها اثبات قوّتها قبل إقرار قوانين “وطنيّة”، والا تحوّلت هذه القوانين الى عنوان للتمترس الطائفي التقسيميّ. الأكاديمي الأبرز الذي يدعو الى قانون الدائرة الواحدة مع نسبيّة هو اراند ليبهارت، المعروف بأب “الطائفيّة السياسيّة”، والذي يهدف من خلال دعوته هذه ليس الى تطوير مفهوم المواطنة بل الى تطبيق نظريّته القائمة على تمثيل الطوائف بشكل دقيق وفصلها عن بعضها قدر المستطاع عبر “ابارتيد طوعي” (voluntary apartheid).
القانون الحالي
لكن بغضّ النظر عن النقاش العلمي والبحثي الاوسع، فان نقطتين أساسيتين ضروريتين الآن: الاولى هي ان القانون الحالي مقبول “نسبيّاً” بالمعنى التغييري، لأنه يسمح بتمثيل الأقليات السياسية (حيث المنافسة مسموحة) داخل المناطق والطوائف، وان ادخال تعديلات جزئية عليه كجعل الصوت التفضيلي على الدائرة الكبرى (التي فرضت في الصغرى كرمى لعيون الصهر) كفيل بفرض تغيير مدني حقيقي (ولو جزئي) على مجلس النوّاب القادم، يتم من بعده البحث باقتراحات عملية (وهي كثيرة) لجعل القانون أكثر “وطنيّة”. كما ان نتائجه قد تشجّع – في حال حصول الكتلة المدنية على ربع الأصوات او أكثر – على المباشرة بإلغاء التوزيع الطائفي للمقاعد النيابيّة وانشاء مجلس شيوخ تمثّل فيه الطوائف ويعنى حصراً بالقضايا الكبرى. النقطة الثانية والأهم هي ان طرح موضوع القانون الآن فخّ محكم لمنع الترجمة الفوريّة لمفاعيل الثورة “المشبوهة والممولة من السفارات”، وان الوقوع فيه قد يقضي على حق الإرادة الشعبية بالتمثيل من أساسه. فهل منّا من نسي ان السلطة ما رفّ لها جفن حين أجّلت الانتخابات لخمسة أعوام، تارة بحجة الامن وطوراً بحجّة القانون؟
* أستاذ جامعي وباحث