قيل إن الدموع هي الكلمات التي تخفي عجز المرء عن التعبير. لكن العجز، هنا، ليس دموعاً على أناس لم يعرفوا ما الذي جرى قبل أن ينتهوا تحت الركام. العجز، هنا، ليس في مواجهة حرب، أو طغاة، أو جنون مهووس بالسلطة والمال. بل هو عجز في مواجهة اللايقين الخارج عن قدرة العقل على التوقّع والفعل.
لحظات عجز، سواء امتدت أربعين ثانية في بيروت، أو استمرت لأكثر من ذلك وانتهت بالدمار والموت. لحظات عجز عن فعل أي شيء يمكنه وقف المحدلة. كل ما يمكن المرء أن يفعله هو افتعال التماسك أمام أطفال لا يدركون ما الذي يجعل أهلهم يقتلعونهم من دفء أسرّتهم وسط البرد، وافتعال القدرة على صدّ القدر أمام أبناء لا يعرفون لماذا يهيم بهم أهاليهم في الشوارع بحثاً عن ملجأ يقيهم شر مجهول لا يعرفون من أين سيأتي. هو عجز الإنسان عندما يأتي ما يذكّره، في هنيهات قليلة، بأنه أمام اللاشيء الجارف لكل ما نفترضه أبنية لأحلامنا.
ما حصل فجر أمس لا يشبه لحظات الحروب القاسية التي تعوّد عليها شعبنا في لبنان أو سوريا، أو حتى في تركيا. ولا يشبه، البتّة، كل الأفلام التي حاولت تقريب الفكرة افتراضياً. هو أمر يعرّي كل الأشياء ويظهرها على حقيقتها الأصلية. أننا أفراد لا نساوي شيئاً في تجربة تحدّي الموت. حدث يوقظ فينا فعل الطبيعة التي أردنا أن نتحداها كل الوقت. ونعتقد بأننا تفوّقنا عليها بالحروب والصناعة والعلم والمال.
وما إن يستيقظ الجمع من سباتهم حتى تنكشف الصورة، حيث لا شيء يقاوم الغبار والدخان. حتى العواصف والأمطار تفقد قدرتها أمام رائحة الركام وما تحته من بقايا أناس آووا إلى أسرّتهم قبل أن يتحوّلوا كومة من ثياب وغبار تنتشلها أيادي الباحثين عن بقايا نبض.
في غفلة، يخفّض الطواويس رؤوسهم نحو الأرض. يهابون النظر إلى ما يحصل من حولهم. لكنها، لحظات قليلة، يعود بعدها الجميع إلى ما كانوا عليه. وفي حالتنا هذه، يعود القاهر قاهراً، والمسكين مسكيناً، والقتيل قتيلاً… من دون أن يعتبر أحد مما حدث. تقفز أمام هؤلاء مصالحهم طالما هم أحياء، ويعودون إلى عاداتهم. لن يلتفت متجبّرو العالم إلى حال أبناء سوريا الذين طاردهم الموت، بالبارود ثم بالجوع ثم بالقهر اليومي، وهم يطلبون مساعدة في انتشال الموتى فقط. في كل مرة نشهد كوارث نتسبّب بها، أو تعاقبنا الطبيعة بها، لا نتعلم أن الوهم هو الأقوى، لا الجبروت ولا القوة.
من منّا لم يشاهد حال الناس في شمال سوريا وغربها، حيث رُتّبت الأمور ليكونوا على هيئتين وعقلين وقلبين، لكن قدراً أعاد جمعهم في لحظة قاسية. ورغم أن الشرير يختفي للحظات خلف الدخان، إلا أنه سرعان ما يعود ليكرر معزوفته الكريهة، مواجهاً الناس والطبيعة. والشرير هذا لا يريد أن يسمع استغاثة أو نداء، ولا رؤية طفلة تنادي أمها. الشرير المتشكّل على هيئة الغرب وجماعاته هنا لا يزال مانعاً اللقاء ولو على حافة القبر!