IMLebanon

لبنان وإشكالية «التوجه شرقاً»

 

 

لنَقُلْ إن شعوراً يتزايد بين اللبنانيين بأن وطنهم الذي عرفوه قد انتهى وأن ما من شيء سيعيدهم إلى ما قبل نكبتهم الحالية. الشعور هذا تعززه متوالية من الانهيارات بدأت مع القطاع المصرفي ووصلت إلى مؤسسات التعليم العالي الخاصة وإدارات الدولة وقدرة هذه الأخيرة على تسيير الشأن المعيشي اليومي للمواطنين.

يختلف خبراء الاقتصاد والاجتماع حول موعد «الارتطام» أي اللحظة التي تتفكك فيها آليات الضبط والرقابة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ويعود فيها البلد إلى «الحالة الطبيعية»، حيث يعمل كل فرد للحفاظ على نفسه وحياته ولو على حساب الأفراد الآخرين سواء باستخدام القوة أم كل أشكال القهر والإخضاع. الأمر ذاته يصح على الجماعات التي لن تتردد في اللجوء إلى العنف ضد منافسيها من أجل البقاء وتأمين الحد الأدنى من متطلبات الحياة لأعضائها.

نهاية لبنان كما عرفه بنوه تعني تحولاً جذرياً في وظائفه الاقتصادية ونظامه السياسي وبنيته الاجتماعية، نحو مسارات ما زالت غامضة وغير محددة. «الشعور» غير المبني على إحصاءات وأرقام، ككل ما يتعلق بالحياة العامة اللبنانية، الذي ينتشر بين اللبنانيين هو أن «الاتجاه شرقاً» الذي بشّر به أنصار محور الممانعة قد يكون أكثر جدية مما يعتقد من سَخر من هذا الخيار؛ ذلك أن الإفلاس الشامل من جهة ولا مبالاة الغرب والعرب بمصير لبنان (الذي رسمته سياسات مديدة اتسمت بالجهل والتخلف والمكابرة) سيؤديان إلى تقدم لاعبين جدد لاستخراج ما تبقى من قيمة في هذه البقعة من العالم. يعزز هذا التوقع المساعي الجارية اليوم للتطبيع العربي مع نظام بشار الأسد والتبعات التي ستلي ذلك على لبنان.

وفد من رجال الأعمال الروس زار لبنان للاطلاع على أوجه الاستثمار في القطاعات النفطية وإعادة إعمار مرفأ بيروت، ما يُذكّر بالدور الروسي في المرافئ وفي قطاع النفط في سوريا. كما أن تكرار الحديث عن استيراد النفط والدواء والسلاح من إيران، يتعين أن يخرج من دائرة الأعمال الخيرية ليوضع في سياق نسخ التجربة الإيرانية في سوريا على الواقع اللبناني. شراء العقارات والتغيير السكاني وإحلال أنماط جديدة من الممارسات الثقافية والاجتماعية، أمور بات النقاش فيها ضرورياً وإن اقتصر حتى الآن على حلقات ضيقة من الأكاديميين والباحثين السياسيين.

الهيمنة الاقتصادية الروسية ونظيرتها السياسية – الثقافية الإيرانية على لبنان، قد تكونان النهاية المتوقعة لطريق الانهيار الحالي، خصوصاً أن قوى الاعتراض ما زالت تتخبط في مراهقة وتبلد ذهنيين يصعب الخروج منهما نظراً إلى الأعطاب التكوينية في النخب البديلة (المفترضة) وإلى ضآلة التمثيل الشعبي الذي تتمتع به هذه الشخصيات.

يتغذى ذلك كله من حقيقة أن اللبنانيين عجزوا في الفرصة التي أتيحت لهم بين 1990 و2019، أي بين نهاية الحرب الأهلية وانهيار الدولة، عن صوغ وظيفة جديدة لبلدهم في النظام العالمي سريع التبدل، فيما أسهم نظامهم الطائفي في إبقائهم أسرى ولاءات ظلت تشدهم إلى كل ما ينبذه العالم ويحتقره، ليس فقط لناحية انحياز أقسام وازنة من اللبنانيين إلى المحور الإيراني ومشاركتها حروبه في سوريا والعراق واليمن ما ألحق أضراراً لا يمكن إصلاحها بعلاقات لبنان العربية ومع الغرب في حين أن البلد فقير ذو اقتصاد هش وغير منتج عموماً، بل أيضاً لاعتبار الفساد شكلاً من أشكال إدامة النظام ومدّ القيادات الطائفية بالمال اللازم لتشغيل آليات الزبائنية ونهش القطاع العام وصولاً إلى إفراغه من كل حيوية وطاقة وانقلابه عبئاً على المجتمع. وليست صدفة أن يترافق أي موقف يعلنه مسؤول أجنبي حول لبنان، بإدانة صريحة لفساد الطبقة السياسية والدعوة إلى إجراء إصلاحات جدية. وهذه الإصلاحات يعرف المسؤول الأجنبي والمواطن اللبناني أنها لن تحصل في ظل موازين القوى الحالية.

التوجه شرقاً، يعني من بين أمور أخرى، القبول العام، الداخلي والعربي، بتحول لبنان إلى دولة لا تختلف كثيراً عن «سوريا الأسد» أو عن «الجمهورية الإسلامية في إيران» من النواحي الاقتصادية والسياسية. الرافضون لهذا الخيار ليسوا بالقوة ولا بالأهمية اللتين يمنحونهما لأنفسهم وهم، في واقع الأمر، مرشحون لينضموا إلى جماعات اللاجئين السوريين والفلسطينيين وغيرهم من العرب وأبناء الدول الاستبدادية في المنافي ودول لجوء قد تكون لطيفة معهم وتسمح لهم بإقامة أمسياتهم الشعرية ومعارضهم الفنية وبتوقيع كتبهم الجديدة.

أما الفاعلية السياسية والسيطرة على المجال العام واستعادة الدولة وبناء مؤسسات بديلة، فشؤون دونها خرط القتاد مما لا يرغب أي من «النشطاء» في التورط فيه.