لا تصدِّقوا المتشائمين فحروبُ الشرقِ الأوسط ليست سرمديةً. ولا تصدّقوا المتفائلين فالحلول ليست قريبة. ولا تصدّقوا التقليديين فالكيانات ليست ثابتة. ولا تصدِّقوا المخطِّطين فالأرض تُعدِّل الخرائطَ الجاهزة.
التجاربُ التاريخية، معطوفةٌ على سيرِ الأحداث تُمليان التروي بتحديد مواعيد التسويات وأشكالِها، لاسيما وأنها تسوياتٌ تتأثر بحروبٍ متوقَّعةٍ في دول أخرى تظنّ نفسهَا قادرةً على تجنّب ما يحدُث، أو ما هي أحدَثتْه، للآخَرين. وأساساً إن أحدَ أسباب تمديدِ العنف في دول المشرق هو تأخيرُ انتقالِه إلى شبهِ الجزيرة العربية (دول الخليج) وأسيا الصغرى (بلاد الأناضول) وآسيا الوسطى (دول محيط بحر قزوين).
لكن خطَّ النارِ يرجِع دائماً إلى وطنه الأم، فالنارُ من فكرٍ وإلى الفكرِ تعود. والارهابُ من مَذهبٍ وإلى المذهب يعود. ومع العودة سيكون وجعٌ عظيم: تَسقطُ أنظمةٌ وتَندثِر عائلات وتَنتقل ثروات وتَندلِع ثورات وتَبرز كياناتٌ مُجهَّزة.
أما الشعوبَ فستبقى على ضَـلالها وضَـياعها، فشعوبَ العالم العربي، مع أحلامِها، أسوأُ من الأنظمة، مع مساوئها، وإلا لكانت الأنظمةُ هَوَت من زمان. إن شعوبَ المنطقةِ كرّست حياتَها للحروب، ولتفسيرِ الدين ــ وأي تفسير! ــ عِوض تفسيرِ الحياة.
إننا أمام عقودٍ صعبةٍ ولو هَمدت المعارك، فحروب الشرق الأوسط لصيقةٌ بطبيعةِ تكوينه. هي خبزُه اليومي. ومن يَستغرب هذا التوقّعَ المقلِق، فلينظر إلى لبنان الذي لا يزال يتخبَّط في حروبٍ وأحداثٍ جانبية مع أن الحربَ اللبنانية انتهت رسمياً منذ أربعين سنة (1976). أمَا انتقلنا في لبنان من التدمير بالمدفع إلى التدمير بالسياسة؟ وأمَا استهوتْنا لعبةُ السلاح فانتسبنا إلى حروب الشرق والغرب؟
ما هذا الشرق الذي يَعجُّ بالأحقادِ وهو أرضُ الرسالات السماوية؟ وما هذه الشعوبُ التي تتبادل الكراهيةَ وهي من أرحامٍ قُربى؟ وما هذه الأديانُ التي تَفرز منتحلي صفةٍ دينية وفِقهية؟ وما هذه الأنظمةُ التي تُشبِه أعداءَ شعوبها؟ وما هذه المجتمعاتُ التي فوّتت موعدَها مع الحضارةِ فالتحقت بالجَهالة؟
شرقٌ وكأن «القافَ» فيه حرفٌ زائدٌ زوراً على «الشرّ». هو شرقُ النارِ المشتعِلة أبداً، هو شرقُ الوأدِ والسيفِ والصلبِ والرجْم. هو شرقُ الوراثةِ التناسلية والسلالاتِ المريضة والالقاب الطويلة والعنفِ المستدام. هو شرقٌ مضادٌ للحضارة. منابعُ خيرِه صارت مصادرَ شرِّه: اليهودُ يُعادون الجميع، السُنّةُ يَنقُضون الشيعةَ، الشيعةُ ينازِعون السُنّةَ، الدروزُ يَحذَرون الاثنين، والمسيحيون يستعيدون دربَ الجلجلةِ فيما القيامةُ قدرُهم.
وحالُ الدولِ تحاكي حالَ الشعوب: مصرُ أُضعِفت باقتصادِها، والعراقُ بتقسيمه، وسوريا بحربها، وتركيا بطموحاتِ أكرادِها، والخليجُ بأسعارِ نِفطه وفِقهه، واليمنُ بقبائله المتقاتلةِ دورياً، وليبيا بفوضاها الناميةِ، والسودانُ بتخلّفِه، ولبنانُ بتناقضاتِ تعدديته، إلخ.
وأغربُ ما شهِدناه في السنواتِ الأخيرة هو توكيلُ «داعش» بحركة التغيير (أو ضربِ التغيير) في سوريا والعراق بغضِّ النظر عن الجِهات المُوكِّلة. هكذا تبدو «داعش» ومثيلاتُها حالةً إسلاميةً لا حركةً إرهابيةً فقط رغم أنها تتحدى الإسلامَ الطبيعي وتعادي المسيحيةَ، بل الإنسانية.
إن أخطرَ ما يؤذي العربَ والمسلمين هو ظاهرةُ تناسلِ الصراعاتِ التي تُعبِّر أساساً عن عجزِ الإسلامِ التقليدي والنُخبوي عن إحداثِ التغييرِ التقدمي والسيطرة على الرأي العام. وُلِدت ثنائياتٌ عقَّدت الصراعَ الأساسي، وجعلت مواقفَ القوى المتصارعة تخضَع لمفهومِ الخير والشر والايمان والتكفير والوليِّ والفقيه عوضَ الموالاةِ والمعارضةِ والديمقراطيةِ والمؤسساتِ المدنية.
أدى ذلك إلى إخراجِ قضايا العربِ والمسلمين من معاييرِ القيمِ العالمية وربْطِها بقيمٍ منافيةٍ للقيم، علماً أن تصرّفَ الغرب تجاه الشعوب العربية المقاومِة والثائِرة جاء منافياً أيضاً لأبسطِ القيم الاخلاقية.
وضَعت الراديكاليةُ الإسلاميةُ مصيرَ الصراعات أمام الهزيمة الكاملة أو الانتصار الكامل في زمن يتعذّر فيه الانتصارُ وتتكدّس فيه الهزائم. أطرافُ الصراع استبعدوا التسوياتِ والحلول لحسابِ استمراريةِ العنف والنظريات الجذرية: بدأ الصراعُ بعنوانِ القضية الفلسطينية (الشعب) ثم صار صراعاً إسرائيلياً ــ فلسطينياً (الأرض) فإسرائيلياً ــ عربياً (المصالح)، فعربياً ــ فارسياً (قيادة المسلمين). وبموازاة ذلك استمرت الصراعاتُ الثنائيةُ بين المسيحيةِ والإسلام والسُنةِ والشيعة والأنظمةِ والشعوب والمتطرفين والأكثر تطرفاً…
كلّ صراعٍ ثنائيٍّ يبرّر وجودَه بشكل منفصلٍ عن الصراعِ الأساسيِّ الكبير، ويعتبر نفسَه أهمَّ من الصراع الكبير الذي هو مع إسرائيل ومع التخلف. إن تداعياتِ التخلّف، بكلِّ تجلياته، على شعوبِ المنطقة تفوق تداعياتِ الحروبِ الإسرائيلية. أليس مدعاةُ غضبٍ أن يبقى هذا الشرقُ، مهدُ الحضاراتِ والدياناتِ والأبجدية، جاهلياً ومتخلّفاً وأن تَفرزَ مكوناتُه الحروبَ والفتن بشكلٍ آليٍّ ودوري؟
وما يزيد الغضب أن قوى التغييرِ، التي ابتلعتها الصراعاتُ الثنائية، فشِلت في مواجهةِ الأنظمة وتراجعت أمامَ قوى الارهاب ما وفَّر للمجتمعَ الدولي الذريعةَ الذهبية لتفضيل الأنظمةِ على الارهاب.
لكن الانتعاشَ الذي تشهَدُه أنظمةُ المنطقة هو مرحليٌّ لأنه يُعرقل تنفيذَ الخريطة العتيدة للشرق الأوسط. لا بل، يَتِمَّ استخدامُ الأنظمةِ الآنَ ضدَّ داعش كما استُخدِمت داعشُ سابقاً ضدَّ المعارضةِ والأنظمة معاً، وسنة 2017 مليئةٌ بالمفاجآتِ العسكرية والأمنية والانفصالية. لذا، إن أفضلَ خطوةٍ تقوم بها الأنظمةُ المنتعشةُ هي أن تغيِّر سلوكَها، وهو أمرٌ متعذرٌ فمَن شبَّ على شيء شابَ عليه، أو أن تعيدَ النظرَ بمساحةِ نفوذِها لتَسلَم.
صحيحٌ أن النظامَ السوريَّ بعدَ حلب ليس مثلَ قبلَ حلب، لكن سوريا بعد سنة 2011 ليست مثلَ سوريا ما قبلَ هذا التاريخ. أما نحن في لبنان، فما لم تتوقّف التنازلاتُ، فسائرون نحو مؤتمرٍ تأسيسيٍ بالتقسيط تحت مُسمَّياتٍ مختلفة.