عندما تحدثت «الجمهورية» في هذه الزاوية عن الاستعدادات الروسية الجارية قبل اسبوعين للانسحاب من حقول شرق المتوسط قيل انّ هناك انحيازاً الى محور دولي في مواجهة آخر، وتجاهل أصحاب هذه النظرية التي قالت بالانخراط في هذه المواجهة الدولية القائمة منذ الغزو الروسي لأوكرانيا، صُدقية وحجم المعلومات التي لا تقف عند هذه الخطوة الروسية فحسب. وعليه، ما هي الخطوات المتوقعة والتي تواكب هذا القرار، وتلك التي ستليه، وماذا تنوي موسكو القيام به مستقبلاً؟
في ظل مجموعة النظريات والمواقف المرتبكة التي تواكب التطورات الجارية في المنطقة والعالم يبدو جلياً انّ هناك من يصعب عليه ان يحوط بمختلف الحقائق التي تختزنها هذه التطورات المتسارعة وما يمكن ان تقود اليه الخلافات القائمة على اعلى المستويات الدولية قبل الاقليمية والمناطقية، وما يمكن ان تنتهي اليه القرارات الكبرى التي تحكم العالم من تداعيات متشابكة بعدما تحول العالم «قرية كونية» صغيرة يمكن من خلالها متابعة ما يجري في 193 دولة فيه مُعترف بها في الأمم المتحدة في اللحظات عينها التي تواكب أي حدث في اي منها.
وبعيداً من مسلسل النظريات التي لا مجال للإشارة إليها في معرض هذا المقال، تعترف مصادر سياسية وديبلوماسية واسعة الاطلاع أنه من الصعب على أي كان مواكبة التطورات الدولية بتفاصيلها وتقدير تردداتها من اللحظة الاولى، ولكن في امكان اي متابع لأي ملف محدد ان يحوط به من جوانبه المختلفة شرط القدرة على الربط المنطقي والواقعي بين حدث وآخر. فمنذ ان أعاد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين روسيا الاتحادية إلى مدار القوى العظمى بعد ما تركته «البيريسترويكا» من ترددات أنهَت تركيبة الاتحاد السوفياتي كقطب دولي في مواجهة القطب الاميركي، بدأت السيناريوهات المتناقضة تتحدث عن الموقع الذي وصلت اليه موسكو على الساحة الدولية.
وإن انحصر البحث في قراءة التحولات في منطقة الشرق الأوسط لا يتجاهل المراقبون ما انتهت اليه الطحشة العسكرية الروسية في خريف 2015 لإنقاذ النظام السوري من براثن المجموعات الارهابية التي غمست أرجل مجموعاتها بمياه البحر الأبيض المتوسط في منطقة قريبة من الحدود التركية وعلى بعد نحو 90 كيلومترا من القاعدة البحرية الروسية في طرطوس، وهددت الساحل السوري بعد السيطرة شبه الكاملة على شمال البلاد على طول الحدود السورية – التركية وصولاً الى مثلث الحدود التركية ـ العراقية ـ السورية وعلى مساحات تتجاوز بضعة مئات من الكيلومترات في عمق الدولتين على طول الحدود السورية – العراقية، وربطت بين الموصل والشمال العراقي بالوسط والشمال السوريين، وباتت في غضون أشهر قليلة تحت سيطرة «الدولة الاسلامية في العراق والشام» المعروفة بـ»داعش» التي نشأت في الموصل في حزيران من العام 2014.
قيل يومها انّ موسكو استدرجت الى المستنقع السوري وان قدراتها العسكرية ستنهار ولن تستطيع المضي في عمليتها العسكرية ودفع كلفتها الباهظة للقضاء على المجموعات الارهابية. فهي تعاني أزمات اقتصادية زادت من حدتها العقوبات الاميركية والدولية التي فرضت عليها إثر ضمّها شبه جزيرة القرم الى اراضيها عام 2015 بعدما اعتبرها بوتين انها كانت مجرد «هبة روسية» منحت لأوكرانيا منتصف خمسينات القرن الماضي وقد حان اوان استعادتها الى هويتها الروسية.
وعلى رغم من سيل النظريات التي تحدثت عن انهيار اقتصادي ومالي روسي وشيك، عبّرت روسيا عن قدرتها على تجاوز كلفة الحرب السورية وسارعت الى تنظيم سلسلة مؤتمرات توزّعت بين عدد من عواصم العالم بحثاً عن الحل السياسي في سوريا تمهيداً لعملية الإعمار عقب اطلاقها خطة لأكبر عملية لإعادة النازحين السوريين من 54 دولة في العالم بكلفة تجاوزت 8 مليارات دولار، وقد عجزت عن تأمين ما يؤدي الى تنفيذها.
وعلى وقع هذه الطموحات الروسية التي بقي معظمها حبراً على ورق، على الاقل بالنسبة الى توفير الحل السياسي وتوليد الدستور الجديد في سوريا وإعادة نازحيها، بقيت السيناريوهات الغربية تحاكي انهياراً روسياً وشيكاً بين شهر وآخر، الى ان أطلق بوتين عمليته العسكرية في أوكرانيا في 23 شباط الماضي بغية تأديب «النازيين الجدد» فيها وضَم بعض المقاطعات ذات الاصول الروسية الى روسيا أو الاعتراف باستقلالها عن القيادة المركزية في كييف، فارتفعت العقوبات الأميركية والاوروبية شكلاً ومضموناً، وطوّقت القطاعات الحيوية الروسية التي وصفت بأنها «مُنهكة» الى ان طاولت مقاطعة الغاز والنفط الروسي الذي يوفر اكثر من 60 في المئة من حاجات دول الجوار الروسي والأوكراني.
قيل يومها إنّ الهدف من مثل هذه القرارات هو القضاء على ما تبقى من مقومات الصمود في روسيا وتسريع الانهيار في الاقتصاد الروسي. فردّ بوتين بسلسلة من القرارات والتفاهمات الدولية مع الصين وايران وتركيا ودول اخرى وفرضَ على الشركات الراغبة بغاز روسيا ونفطها دفع ثمنه بالروبل بدلاً من الدولار، فحافظ على نسبة عالية من التوازن الاقتصادي والمالي بشكل لم يكن يعترف به الغرب وزادَ من وارداتها المالية بما يضمن قدرتها على المضي في حروبها ضد اوكرانيا والعالم وصولاً الى آخر القرارات التي اصدرها بوتين قبل ايام برفع عديد الجيش الروسي النظامي الى مليوني جندي، وهو امر لم يعرفه الاتحاد السوفياتي في عز مراحل السيطرة الدولية.
وقبل التوسّع في هذه القراءة الشاملة، لا بد من العودة الى قراءة القرار الصادر عن إحدى امبراطوريات روسيا والعالم النفطية «نوفاتيك» بالانسحاب من الكونسورتيوم اللبناني مع شريكتيها الايطالية «ايني» و الفرنسية «توتال» لأسباب ربطتها بفقدان السيولة بالدولار الاميركي التي تأثرت نسبتها بالعقوبات الغربية ولم يعد في قدرة موسكو توفيرها بالحجم المطلوب لخوض مشاريعها العملاقة في العالم والتي لا تقاس بحصتها في البلوكات النفطية اللبنانية التي لا يمكن ان تساوي كلفة ادارة حقل نفطي واحد في روسيا او في العالم حيث تعمل «نوفاتيك» بشراكة دولية مع عمالقة آخرين في أسواق النفط والغاز وإنتاج الطاقة النووية والكهرومائية وخلافها.
ومن يرغب بفَهم حقيقة القرار الروسي وحجمه لا يمكنه ان يتجاهل انّ لكل من «توتال» و»ايني» شراكة مالية بنسبة لا يُستهان بها، ولها حصصها في الشركة. وإن غابت بالاسم عن الحقول اللبنانية المجمّد العمل فيها حتى اليوم فهي باقية عبر شركائها بشكل من الاشكال ولن تؤثر على تنفيذ العقود المبرمة مع لبنان، والتي يمكن ان تنفذها بمعزل عن الشراكة الروسية.
وبناء على ما تقدم لا يمكن النظر الى انسحاب موسكو من حقول غاز المتوسط اللبنانية من دون غيرها، فأعمالها مستمرة في المناطق السورية وتستعد لمشاريع عملاقة فيها. وان توقف عندها البعض لا بد ان يكون على علم بوجود قرار روسي يُبعد موسكو عن كثير من المؤسسات الاممية والدولية نتيجة ما هو مطلوب منها من رسوم اشتراكات ومساهمات بملايين قليلة من الدولارات، وقد قررت الانسحاب منها بدلاً من توفيرها بهدف الاحتفاظ بما لديها في أسواق ومجالات أكثر حيوية لها ولمصالحها في الداخل والخارج.