العالم الإسلامي ليس في أفضل أحواله، بل هو يعاني من مظاهر الضعف والوهن. إنه يتحضّر لفقدان التفوّق الاقتصادي الذي تمتع به قرناً من الزمن، بفضل موقعه العالمي في إنتاج الطاقة وامتلاكه مخزوناً هائلاً من النفط والغاز.
تبارت الأقلام والأبحاث في شرح التطوّرات السريعة والهائلة في مجال النفط وركزت على سرعة إنتاج الطاقة البديلة. لقد بيّنت التغيّرات الدراماتيكية في خريطة إنتاج الطاقة، أن بلداناً، مثل الولايات المتحّدة الأميركية، تتحوّل من دول متعطّشة لاستيراد النفط إلى بلدان مرشحة لتبوّء مركز الصدارة في الإنتاج والتصدير.
اختار الشرق الإسلامي لحظة الضعف التي يعيشها لكي يفجّر أحقاده على نفسه ويعمّم الاقتتال بين «عصبياته» ومكوّناته. الضعف لا يتعلّق بالآفاق البعيدة والتطورات المرتقبة على مدى العقود الآتية وحسب، بل يظهر أيضاً من خلال الظروف السياسية والاقتصادية الآنية، حيث تتراجع اقتصاديات المنطقة بفعل هبوط أسعار النفط، فيما تتفاقم الأحقاد وتستعر الحروب بين سكانها.
تناولنا في هذه الزاوية مراراً ضعف الاقتصاد الإيراني، أسير العقوبات الغربية التي لا ترحم. إيران، وحتى إشعار آخر، ممنوعة من بيع نفطها، وإن استطاعت فهي عاجزة عن تقاضي ثمنه. وقد ازدادت ضائقة الاقتصاد الإيراني مع هبوط أسعار النفط بنسبة تقارب 60% في الأشهر القليلة الماضية.
تردّد أن هبوط أسعار النفط لا يعود فقط إلى تزايد الإنتاج وتقلص الطلب، بل تقف وراءه أيضاً رغبة سياسية بكسر إرادة روسيا وإيران في الصراعات الدولية والإقليمية المتفجّرة. وحتى لو صحّ ذلك، فالمملكة العربية السعودية ليست بمنأى عن الأضرار التي أحدثها هبوط أسعار النفط.
لقد واجهت المملكة استحقاق وفاة الملك عبدالله بن عبد العزيز والتغييرات الشاملة في مواقع السلطة وهي في وضع اقتصادي غير يسير، مع أنها تصدّت لـ «زلزال» أسعار النفط بموقف هجومي فتبنّت سياسة مالية توسّعية وأقرّت موازنة طموحة للنفقات. استقوت المملكة بقدرتها على تحمّل العجز مسلحة بـ «اللحم الحي»، أي بالاحتياطات المالية الضخمة التي تملكها.
ولكن الحقيقة لا بدّ أن تظهر في مكان ما. فها هي نتائج الاقتصاد السعودي للعام الماضي وتوقعات العام المقبل تبيّن الأضرار التي لحقت بالاقتصاد السعودي جراء الانخفاض المريع في أسعار النفط. فالإحصائيات التي نشرتها مصلحة الإحصائيات العامّة والمعلومات السعودية بيّنت تراجُع النّموّ الاقتصاديّ في المملكة إلى أدنى مستوى له منذ سنوات، وذلك في الفصل الأخير من سنة 2014، إذ تراجع إلى 2% من 5% في الفصل الأخير من سنة 2013 مما يدلّ على الارتباط المباشر بين هبوط أسعار النفط وتراجع النموّ الاقتصادي.
الاثنين الماضي، عرض الدكتور فهد المبارك محافظ مؤسّسة النقد القطري «ساما» في حلقة اقتصادية سلسلة من التحدّيات التي تواجه الاقتصاد السعودي، الذي لم يعد قادراً على تحقيق نتائج مهمّة كالتي أنتجها في ربع القرن المنصرم من دون أن يخضع لإصلاحات جذرية.
مصر، البلد المهمّ والمؤثر في المنطقة، تعاني من آثار التطوّرات السياسية والأمنية التي تعيشها منذ أربع سنوات، وقد شهدت في الأسابيع الأخيرة تراجعاً حادّاً في سعر صرف الجنيه المصري، بالتزامن مع التحدّيات الأمنية التي ما زال يواجهها حكم الرئيس عبد الفتاح السيسي. فإلى المشاكل العضوية المزمنة التي يعاني منها الاقتصاد المصري، ساهمت الأحداث منذ ثورة يناير في إبعاد الاستثمارات الخارجية والسيّاح الأجانب ورفعت معدّلات الفقر والبطالة.
التركيز على التراجع الاقتصادي لا يعني إهمال المشاكل الكبرى التي نواجهها، ولا يقلل من شأن الصراعات الدموية ودورها في تفتيت المنطقة وشعوبها إلى أمد بعيد. ولكن إبراز العنصر الاقتصادي هو أمر بالغ الأهمّية، لأن التراجع الاقتصادي الراهن ليس ظاهرة مؤقتة أو موضعية، بل هو بداية لمسار جديد، وطويل، يرجّح أن يفقد الدول النفطية التقليدية موقعها المؤثر لمصلحة دول أخرى، ويدفعها للترجّل عن صهوة التفوّق الذي رافقها طيلة قرن من الزمن.
المنطق السليم يقول إن مرحلة التراجع الاقتصادي ينبغي أن تكون حافزاً للتضامن والوحدة باعتبارهما تعويضاً سياسياً عن خسارة الموقع الاقتصادي. ولكن ما نشهده اليوم هو النقيض، إننا لا نرى إلا تسابقاً على السير في الخط المعاكس.