النتائج الاقتصادية في أي دولة هي نتيجة عوامل عدة تبدأ من الثقافة الى السياسة والادارة بالاضافة طبعا الى نوعية القيادات التي تحكم. الثقافة أساسية اذ نرى دولاً تنجح اقتصاديا وأخرى تفشل بسبب طريقة الاداء وصوابية التفكير. هنالك ثقافتان كبيرتان عالميا هما الغربية كما الشرقية. ضمن كلٍّ منهما، الفوارق كبيرة. مثلا الفارق كبير بين الثقافة الصينية والهندية أو اليابانية والكورية وغيرها. كذلك الأمر بالنسبة للغربية، حيث بالرغم من التشابه تبقى الفروقات كبيرة بين الثقافة الأميركية مثلا والفرنسية كما السويدية وغيرها. الثقافة تؤثر كثيرا على الاداء ومن الأفضل فهم ثقافات الدول التي نتعامل معها لتسهيل التبادل وتقوية الفوائد. عندما نقول مثلا اننا نريد التوجه شرقا، فلا يمكن أن ننجح اذا لم نفهم الثقافة الشرقية ومزاياها ونحسن التخاطب من ضمنها لجذب الآخرين. كذلك الأمر لمن يريد التعاطي مع الغرب، هنالك حد أدنى ثقافي يجب الالمام به للاستفادة من العلاقات التي أهمل الاقتصاديون جانبها الثقافي.
يعتقد الصينيون أن العالم هو دائرة بينما يفكر الغربيون أن العالم هو خط مستقيم ينتقل عليه الانسان من مرحلة الى أخرى ولا يعيد نفسه. معرفة الماضي تبقى مهمة في الثقافتين الا أن التاريخ لا يعيد نفسه بالضرورة في الحالة الغربية. يفضل الغربيون تقسيم الأمور الى فئات أو أصناف بحيث يسهل الدرس كما تسهل المعالجة. بالنسبة للشرقيين، العالم معقد جدا ويتأثر بعوامل متعددة متشابكة ومتناقضة، لذا تقسيمه الى فئات للدرس هو تبسيط للأمور. العلاجات المنطقية لا تعطي النتائج الفاضلة بالنسبة للشرقيين في عالم ليس مبنياً على المنطق السليم بالضرورة. الانسان المتعلق بالمنطق هو غير ناضج بالنسبة للصينيين، وبالتالي الأمور تتطلب عقلا أوسع وتفهما أكبر للتحديات المتناقضة.
يركز الغربيون على الفرد والانسان كقوة عقلية كبيرة تفكر وتحلل وتجد الحلول. عقل الانسان فريد ويعمل بنشاط ويجب أن تترك له الحرية للانتاج والابداع. يفضل الغربيون درس كل مشكلة بمفردها وعدم ربطها بأمور أخرى تعرقل أو تؤخر ايجاد الحلول. لكل مشكلة حل يمكن أن يأخذ وقتا للتنفيذ، لكن لا بد من ايجاد الحلول الفردية حتى لو كانت مترابطة. يعطي الغربيون أهمية كبرى للنقاش في المجتمع، لا بل للمناظرات العلنية بين الأفراد أو بين السياسيين أو بين الفرد والسياسي حيث تعرض وجهات النظر. الانسان الجدي هو الذي يدافع عن وجهة نظره أمام الآخرين أي أمام الجميع أياً كانوا وفي وجههم. الانسان محارب ليس بالسلاح بل بالمنطق ومن واجبه عرض آرائه وربما اقناع الآخرين بها. لا شك أن طريقة التفكير مختلفة وهنالك منهجية متناقضة كالفارق بين الفيلسوفين «أرسطو» و«كونفوشيوس». الأوضاع بتفاصيلها تنبع من الفلسفة التي هي أساس العلوم والتطور.
الانسان الغربي أو المرتبط بالعقلية الغربية يبني مواقفه معتمداً على الحريات التي تحميها المجتمعات والعقليات قبل الدساتير. الانسان الغربي هو الذي يكون له حب الاستطلاع على كل شيء بحيث يأخذ قراراته بوعي ومعتمدا على المعطيات المتوافرة. يطور الانسان نفسه عبر الاستطلاع أي القراءة والاصغاء للآراء الأخرى وقراءة الكتب والمجلات والصحف كما متابعة التطورات العالمية. يطور نفسه عبر الاطلاع على العلوم والآداب أي حضور المسرحيات والمشاركة في «أسواق عكاظ» وغيرها من النشاطات والمبارزات الفكرية. يقول أرسطو أن حب الاستطلاع هو الذي يميز بل يحدد الصفات الانسانية. لا يمكن أن يكون الانسان انسانا اذا كان مقفل العقل والضمير، وهذا ما نشهده أسفاً في العديد من الدول الغربية قبل الشرقية.
بالنسبة للصينيين، النشاط المهم هو زيارة الأصدقاء والعائلة والحوار معهم، أي تقوية العلاقات العائلية والاجتماعية التي تنبع منها القوة. بالنسبة للصينيين الانسان هو جزء من مجتمع يقوى به أي أن قوة الانسان الفردية ليست مهمة كما في العقلية الغربية. التركيز على قوة المجتمع لا يعني أبدا أن الانسان هو نسخة عن الآخر، بل أن الانسان الصيني يسعى أكثر بكثير من الغربي الى تقوية المجتمع وليس الى تقوية الفرد. لذا كانت الصين أقوى بالانتاج الصناعي من الغرب في التاريخ لأنها قوّت المجموعة وأنتجت. يفضل الصينيون التنفيذ وليس التركيز على الفكر والنظريات كما يحدث أحيانا في الغرب، وهذا نابع من نظريات كونفشيوس.
دور الانسان أو الفرد هو القيام بما يطلب منه من المنظومة الاجتماعية المبنية على التسلسل في الرتب من الأعلى الى الأسفل. ليس هنالك في المجتمع الصيني ما يشبه الحرية الفردية الغربية. ليس هنالك في المجتمع الغربي ما يشبه التعاضد العائلي أو المجتمعي المبني على التسلسل الرتبي من رأس الهرم الى الأسفل. في الصين، يتجنبون النقاش أو المناظرات التي تبنى عليها الحريات الغربية. يفضلون في الصين الوقوف وراء العائلة أو المجتمع وعدم المواجهة في الرأي. هذا النوع من الفارق يميز أيضا الموسيقى الصينية التي تعتمد على آلات فردية وليس على مجموعة آلات كما في الغرب تتناغم مع بعضها البعض لانتاج أفضل الموسيقى.
يعتقد الغربيون انه من الصعب قراءة التفكير الشرقي أو الصيني تحديدا. يعتقد الصينيون أن طريقة التعبير الغربي عن الرأي هي فظة أو غير مهذبة ولا تحترم أصول العلاقات في المجتمع. لكل ثقافة مزاياها وتبقى الفروقات كبيرة بالرغم من عقود أو قرون من العلاقات. على كل ثقافة أن تفهم الأخرى وتحترمها اذ ليس هنالك جيد وسيىء، لكل منها مزاياها الايجابية والسلبية. لا شك ان العالم أجمع أخذ اليوم أفكارا من الثقافتين، والمجتمع الواعي هو الذي يأخذ الأفضل من كل منهما. كلنا نفكر أحيانا كشرقيين وأحيانا أخرى كغربيين، وهذه هي النتيجة الفضلى للتطور التكنولوجي في الاتصالات والنقل والاقتصاد الرقمي.
ترابط الثقافتين يعقد الأمور والاتصالات، لذا اختيار السياسات الاقتصادية الفضلى ليس سهلا. هل السياسات الأميركية أفضل من الصينية خاصة وأن لكل منهما مزايا كبرى يمكن الدفاع عنها؟ صعوبة الاختيار تعطي نتائج اقتصادية غير فضلى بل متناقضة. النمو القوي المتواصل يؤدي في أكثرية الأحيان الى أزمات اجتماعية وزيادات في الفقر والبؤس. النمو القوي المتواصل يرفع مستوى المعيشة لكنه في نفس الوقت يضر بالبيئة ويزيد التلوث القاتل. النمو المعتمد على التكنولوجيا الكبيرة يرفع نسبة البطالة في بعض الدول وبالتالي يؤدي الى فقر أكبر. بفضل التكنولوجيا المتطورة، لم يعد باستطاعة الانسان أن يرتاح أو يأخذ الاجازات اذ أصبح العمل 24 ساعة على 24. العمل من المنزل بسبب الكورونا خلط المنزل بالمكتب، وكم هو الفصل مهم ويريح النفس كما يؤثر على العلاقات العائلية وفي المجتمع.
قوة المال والأسواق المالية في مجتمعاتنا عقدت الأمور ورفعت المخاطر وجعلت الانسان قلقاً على نفسه ومستقبله. مصلحة المساهم أو المالك هي مصلحة المجتمع، ولو أتت على حساب العامل أو الفقير. ارتفاع سعر السهم هو مؤشر على النجاح الاستثماري حتى لو نتج عنه صرف مئات الموظفين أو الآلاف. المؤسسات العامة عموما لا تعمل بنجاح، وهنالك ضغوط لتحويلها الى القطاع الخاص. هذا جيد في المبدأ، لكن المشكلة أن الانتقال الى الخاص لا يفيد في معظم الأحيان الطبقات الوسطى وما دون اذ يرفع الأسعار ولا يحسن النوعية. كما أن الاستشارات المهنية العالمية تصب أكثريتها في مصلحة رأس المال وضد العمال، مما يخلق أجواء توتر وعنف كالذي نشهده في أوروبا وأميركا وغيرهما. كلما استفدنا أكثر من الوقت للعمل كلما احتجنا اكثر اليه. الاقتصاد الرأسمالي بحاجة الى معالجة تعيد بعض العدالة والصدق اليه، فليس كل شيء ربحاً ومالاً وعائداً وسرعة جميعها على حساب السعادة والنوعية. الانسان يبقى الهدف وليس الوسيلة.