إن كانت لغة السماء هي الحب والرجاء، ولغة المسيح القائم من بين الأموات لغة الحياة اوالانتصار على الموت، فإن لغة أهل الأرض في لبنان تكاد تكون أنين الانهزام أمام الموت، وصمت اليأس وفقدان الرجاء.
في عيد الفصح المجيد عيد قيامة الرب وعبوره من الموت الى الحياة ثمة أناس في لبنان عالقون على ضفة الحياة فلا هم أحياء يرزقون ولا أموات عبروا الى الضفة الأخرى، عالقون في وطن يتأرجح بين الدينونة والخلاص يتخبطون في ظلمة واقع يومي يحجب عنهم انوار القيامة ويفتشون عمن يدحرج لهم الحجر.
لبنانيون تائهون في دائرة الألم والفقر يعيشون من “قلة الموت” شبه حياة تسترها جدران متصدعة يخبّئون خلفها دموعهم واحتياجاتهم. لم نكن نتصور حين قررنا أن نحكي عن آلام الناس في العيد أن نصادف هذا الكم من الناس الموجوعين، المعوزين في منطقة كانت حتى سنة خلت قلب العاصمة الثقافي والأرستقراطي والترفيهي. في الأشرفية التي كانت تجمع بين ضجيج الحياة وصخبها وبين عمق الإيمان وتأصّل الطقوس، رافقنا جمعية Lebanon of Tomorrow في جولة العيد على العائلات المحتاجة، الجمعية التي مدت يدها الى أهل الاشرفية المنكوبين بعد انفجار المرفأ واحتضنت المتضررين منهم فرممت الكثير من بيوتهم وتبنت عائلات بكل احتياجاتها ووقفت الى جانب آلامهم تمد لهم يد العون كلما احتاجوها. وفي أحياء الأشرفية من الجميزة الى الرميل فالصيفي تكشّف لنا عالم مجبول بالوجع والخوف والحاجة نسيه العيد لولا تشبث أهله بالإيمان وتعكّزهم على بعضهم البعض.
في عيني طفلته يفتقد المدرسة والعيد
في منزله الصغير في نزلة العكاوي (الأشرفية) الذي تتداخل فيه المساحات فتختلط غرفة الاستقبال مع غرفة النوم في عجقة مرتبة، تستقبلنا عند الباب طفلة صغيرة تضج حياة وحبّاً، تسرع إلينا تغمر الصبية التي تقدم لها بيض العيد وتشكر الجميع بابتسامة خجولة فيما هي تفتح هديتها بلهفة. إنها ريتا أنجيلا او طفلة “الأعجوبة” كما يقول والدها عبدو طحان. هي الابنة التي ولدت بعد تعرض والدها لذبحة قلبية شديدة توقف معها قلبه لدقائق واحتاج بعدها الى جراحة عاجلة لإنقاذ حياته. ولدت بعد موته وإحيائه من جديد من أم تبلغ الخامسة والأربعين من عمرها من الجنسية الفليبينية. عبدو الذي يعيش مع ابنته وزوجته في هذا البيت المتواضع، الذي ترك الانفجار آثاره المدمرة فيه وبرزت بقع الرطوبة والعفن في سقفه المنخفض، طرد من عمله في إحدى المطابع العام 2019، ويعاني من تداعيات وضعه الصحي فيما تعاني زوجته من سرطان في الغدة الدرقية تحتاج معه الى علاج دائم، بات بلا أي مدخول يعتمد على إعانات صحية من الصليب الأحمر وكاريتاس وعلى مساعدة بعض الجمعيات. “الدنيا لا تخلو من الطيبين”، يقول عبدو، ان إحدى الموظفات في صيدلية قريبة تجري له ما أمكنها من حسومات على ثمن الأدوية الكثيرة التي يحتاجها وزوجته وإحدى الكنائس تؤمن له بعض المساعدات. لكن أكثر ما يحز في نفس عبدو وزوجته التي تنظر إلينا بصمت وانكسار هو عدم قدرته على تسجيل ابنته الوحيدة في المدرسة التي لا يزال يتوجب عليه دفع ما تبقى لها من أقساط السنة الماضية. تدرّسها أمها في البيت، تبذل ما استطاعت لكن الطفلة الموهوبة بالرسم تحتاج الى مدرسة تحضنها ورفاق تكبر معهم…
البيت لا يزال بحاجة الى ترميم خصوصاً بعدما تجاهلته المساعدات الرسمية حين تبين أن ساكنته غير لبنانية؛ لم تشفع لها أوراقها التي تثبت أنها متزوجة من لبناني أو هوية طفلتها اللبنانية. ولم تشفع لعبدو الإصابة الصامتة التي تلقاها إثر الإنفجار وظهرت آثارها بعده بأشهر حين فقد 13 كيلوغراماً من وزنه، وتبين انه مصاب بفتق يحتاج الى جراحة جديدة… الحزن والضيق يلفان البيت ونقمة مكبوتة تحاول التمسك بقبس من ضوء يشع من عيني الطفلة. العيد لم يتوقف في بيتهم هذه السنة رغم اللفتة الإنسانية للجمعية، ربما يزورهم حين تعود ابنتهم الى مدرستها…
البلاط المكسور يكسر خاطره
العم سليم ضو الذي تخطى الخامسة والستين من عمره ويعيش مع شقيقه الذي يصغره ببضعة أعوام في شقته التي تعرضت لأضرار كبيرة في أحد الشوارع الضيقة المتفرعة من مار مخايل، لا تزال آثارها واضحة في بلاط الأرضية، ينظر الى مخلفات الأضرار بحرقة وأسى غير متقبل لما جرى. إنه جنى العمر تبعثر بلحظة، لحظة تكاد لا تنتهي. “من قلة الموت” يعيش العم سليم، حسب قوله، هو الذي توقف عن العمل منذ أكثر من عشرين عاماً، لكنه يؤمن إيماناً عميقاً أن الله الذي خلقه لن يتركه والرب الذي أقام الموتى وشفى العميان قادر على اجتراح العجائب. رغم كل ما أصابه وانطبع اضطرابات في أعصابه وفي كهرباء الرأس وارتفاعاً في السكري لديه، لا يخشى الغد ويدرك جيداً أن “شعرة من رؤوسكم لا تسقط إلا بإذن الآب”. إيمانه وحده هو الذي يعينه في غياب أي عون آخر. سجّل اسمه في بلدية بيروت وفي وزارة الشؤون وفق قوله وتلقى وعوداً بالمساعدة لا تزال حتى اليوم في منأى عن التنفيذ. الجمعية ساعدت في تصليح النوافذ والزجاج وبتأثر واضح ممزوج بالفخر يروي كيف أنهم أمنوا له ستائر من افضل متجر في بيروت. تلك التشققات الظاهرة على جدران البيت والفجوات التي تركتها مربعات البلاط المكسورة في الصالون تكسر خاطره وتقف حاجزاً بينه وبين الشعور برهجة عيد الفصح. على الرغم من صلواته الدائمة والأدعية التي لا تفارق شفتيه لكل من يمد له يد المساعدة، في قلبه حرقة لا يمحوها سوى ترميم الذاكرة وتناغم صورة اليوم مع ذكريات الأمس علّ بذلك يعود العيد الى بيته…
كبرياء يكسره الألم
جوزيف ملّ من الشفقة وتعب من تكرار القصة ذاتها، أرهقته الأحمال الثقيلة التي تهاوت على كتفيه كما تهاوت جدران منزله وسقفه على ساكنيه في زقاق ضيق أسفل شارع الرميل. بيته المتواضع في زقاق فقير من أزقة الجعيتاوي المنسية، تدمّر بشكل شبه كلي بعد انفجار المرفأ وبات بلا سقف يأويه مع زوجته وأولاده الثلاثة. أعمال الترميم لا تزال جارية تقوم بها إحدى الجمعيات والسقف يكاد يعود الى مكانه مسابقاً اليأس الذي يخيّم على قلب جوزيف وحياته. يرفض ان يُذكر اسمه كاملاً أو أن تظهر صورته لم يعد قادراً على الذلّ ولا يحتمل الاستعطاء والشفقة. “نعيش من الشحادة” يقولها بما يشبه التحدي الصامت، “ماذا تريدون أن تعرفوا أكثرمن ذلك؟” يسأل بحرقة. “محرومون من كل شيء: بلا بيت ولا عمل ولا ما يسد حاجة اولادنا الثلاثة”. الدمعة التي تحترق في عينه تسيل صامتة من عيني زوجته حين يصل الكلام الى احتياجات الأولاد. هنا تزول حواجز الكبرياء وعزة النفس والمكابرة ولا يبقى إلا الألم، ألم والد ووالدة يريان أطفالاً في مطلع المراهقة يجاهدون لمتابعة تحصيلهم العلمي فلا يستطيون إليه سبيلاً، لأن عليهم تناوب استخدام جهاز الكمبيوتر الوحيد المتوافر وانتظار رحمة الانترنت الذي تتقطع أوصاله مع كل انقطاع للكهرباء، في ظل عدم قدرتهم على تسديد مستحقات اشتراك المولد. أقساط المدرسة المكسورة عليهم تجعل الغد مظلماً قاتماً. يضحون بكل شيء إلا مستقبل الأولاد ولكن كيف السبيل لتأمينه والدين يكاد يأكلهم؟ “اتكالنا على الله وحده، يقول جوزيف، وعسى ان يمنحنا القوة على الاستمرار”. يحيد العيد عن جوزيف وعائلته وعن منازل الحي الفقير بأكملها، لكن على الرغم من الحرقة والشح الذي يلامس العوز تضامن العائلة هو شعاع النور الذي يبشر بقيامة قريبة.
خوف يسكن الأمس واليوم والغد
الخوف رفيقها مذ اجتاح عصف الانفجار منزلها ولم يترك فيه “حيطاً على حيط”، في ذلك المنزل القائم تجاه مستشفى القديس جاورجيوس، تغيرت حياة تريز الهبر واختلف كل ما فيها، انقلب رأساً على عقب رغم عملية ترميم البيت المنجزة التي تبدو الأمور معها وكأنها عادت الى طبيعتها. الحزن رابض هنا في القلب ومعه الخوف، يحل المساء حاملاً معه صوراً مرعبة لا تغيب من الذاكرة وتشرق الشمس محملة بأثقال نهار جديد متخم بالمتاعب والخيبات. “البيت تعرّض لدمار شامل”، تخبر تريز، “وأختي اصيبت واحتاجت الى جراحة فورية. عدة جمعيات ساعدتنا في الترميم، إبنتي وصهري وإخوتي حضنونا بعد الكارثة”. لكن ماذا عن اليوم؟ هل تخطت تريز وشقيقتها الصدمة؟ هل عادتا الى الحياة؟ بغصة تقول: لا شيء كالسابق: لا العمل، لا جمعة العائلة ولا العيد… لولا قداس يوم الأحد وصلوات اسبوع الآلام لما أحسسنا بطعم العيد. تريز التي تبدو متماسكة ” تعزّها الدني” حين تتحدث عن وضعها الحالي وما تتلقاه من مساعدات، “كأنني اشحد” تقولها بأسى بعد أن باتت بلا عمل، “لكن القلة على صعوبتها اقل وطأة من الخوف مما ينتظرنا”. هو الخوف يسكن الأمس واليوم والغد ويكاد يُلمس في عيني هذه السيدة الشامخة التي تتحايل على حزنها ومخاوفها لتستمر بما يشبه الحياة الطبيعية.
أخوات ثلاث يتأرجحن بين زمنين
في بيت عريق من بيوت الصيفي القريبة من الجميزة القديمة ثلاث اخوات مسنات اصغرهن بلغت سن التقاعد منذ فترة، ليلى، ماري-كلود وزبيدة سلوم، نساء كأنهن من زمن آخر صارت ايامه مجرد ذكرى. زمن عز ورخاء وثقافة ورقي أصيب منزلهن بالانفجار واصيبت فيه إحداهن. كان يمكن لحياة الشقيقات أن تكون أفضل بكثير ويعشن فترة تقاعدهن بسلام وسترة لو لم يقتحم عصف الانفجار منزلهن وتعصف الظروف الاقتصادية بواقعهن المادي الهش. إحداهن تعاني من تخلف عقلي وإعاقة جسدية تقعدها على كرسي متحرك، وأخرى تصارع مرضاً رئوياً يجبرها على استخدام الأوكسجين ليلاً نهاراً والثالثة لم يتبق لها سوى راتب تقاعدي ضئيل بالكاد يكفيها للاهتمام بشقيقتيها. الوضع صعب وحاجة الشقيقات الى العلاجات والأدوية كبيرة. من الحفاضات التي تحتاج الأخت المقعدة الى اربع منها يومياً، الى قنينة الأوكسجين التي بات إيجادها صعباً ومكلفاً، الى الأدوية التي تضاعف سعرها مرات ومرات إذا وجدت. بالأمس تعطل الـ ups الذي يشغل ماكينة الأوكسجين وكلف تصليحه مليوني ليرة دفعتها الشقيقة من اللحم الحي وإلا فقدت شقيقتها. من الجمعيات ومن شقيق لهن تحصل الشقيقات على مساعدة للاستمرار وتأمين احتياجاتهن اليومية. على الرغم من ذلك خلقن من حولهن أجواء العيد وحافظن على تقاليده، “لم نشتر المعمول تقول ماري-كلود واشياء كثيرة استغنينا عنها. نعيش كل يوم بيومه ولا نفكر بالغد حتى لا ننهار. كل يوم يمر علينا بسلامة نعتبره هدية من الرب. نحاول الا “نعتل” الهم كثيراً فنحن غير قادرات على تغيير اي شيء في حياتنا”. وحده الإيمان ينير لهن الدرب ويعطي طعماً للفصح ولكن يبقى الهم الكبير شقيقة ليس لها في الدنيا سوى أختيها.
وتكثر القصص في أحياء الأشرفية وأزقتها، مؤلمة، مؤثرة تثيرالسخط والنقمة على من بعثر بلحظة آمال هؤلاء الناس وغدهم ومحا الضوء من عيونهم، ثم أشاح وجهه عن آلامهم وتناسى مآسيهم.
الأم الحزينة
قصة أم شادي مع عيد القيامة لا تشبه اية قصة سواها فهي الأم الحزينة التي فقدت شادي ابنها الشاب الأبكم في انفجار بيروت، وهي تصارع اليوم لتعيش قيامة المسيح بكل أبعادها الروحية والإنسانية. حياة أبي شقرا التي عاشت اصعب مأساة يمكن ان تعيشها أم تتمالك نفسها رغم هول الفراغ الذي تركه غياب شادي عن حياتها، وتجد في العطاء والمحبة بلسماً لجرحها وقوة تعينها على الوقوف على رجليها، كما تقول. أم شادي التي طحنتها الحياة والظروف المعيشية القاسية وجدت في محبة الناس سنداً لها، هي التي تعمل في موقف للسيارات وتتولى مع زوجها الاهتمام بابنتها وحفيدتها في منزلها المتواضع خلف مدرسة الحكمة في الأشرفية، وجدت نفسها توزع على المحتاجين مما تتلقاه من مساعدات و»إعاشة». «الناس حالتهم تعتير، تقول حياة، وبعضهم يخجل من طلب المساعدة لذا حين أتلقى إعانة أجد أنها تفيض عني أوزّعها على من حولي، والله إذا حصلت على ربطتي خبز آخذ واحدة وأعطي الأخرى لأشخاص لا يملكون ثمن سعر ربطة خبز». كفلس الأرملة تعطي أم شادي من حاجتها للمحتاجين رحمة عن نفس ولدها. «انا عم باكل، غيري ما عم ياكل، كيف فيني اتركن؟»، تقولها بعينين دامعتين وهي تنظر الى صور شادي المعلقة على الجدار. رغم مأساتها تشعر بنعمة الرب عليها: «ما حدا بموت من الجوع». عيد الفصح مرّ عليها ثقيلاً ثقيلاً هذا العام، لم تستطع أن تشارك في صلوات آلام المسيح، تذكرت ابنها ولوعة العذراء مريم ذكّرتها بلوعتها. لكنها لم تغب عن قداس العيد وصلوات الأسبوع المقدس فالعيد صلاة لا احتفالات. كثيرة هي الجمعيات التي ساعدت أم شادي وساهمت في ترميم بيتها، فالكل يحب هذه السيدة الجبارة التي تتعالى على آلامها لتستقبل كل من يطرق بابها بابتسامة تختصر معنى القيامة والرجاء.