IMLebanon

«الشرقية» المسيحية و«كوباني» الكردية

من حطّم صورة «داعش» التي تمّ نفخها وتضخيمها ليس التحالف الدولي ولا طهران ولا النظام السوري ولا «حزب الله» ولا بالتأكيد النظام العراقي، إنما مجموعة كردية في كوباني، وذلك تماماً كما نجحت قبلهم مجموعة مسيحية لبنانية في المنطقة المسماة شرقية آنذاك في تحطيم صورة الجيش العربي السوري.

أسقط الأكراد بدمهم وعرقهم وإيمانهم بقضيتهم وتمسكهم بأرضهم مارداً من ورق تمّ تصويره بأنه لا يُقهر، ولا يُهزم، ولا يُكسر، لانه لا يعرف الرحمة ولا الشفقة ولا الإنسانية، فيعمل على قطع الرؤوس بدم بارد ومشهدية احتفالية تقشعر لها الأبدان.

أسقط الأكراد ما تمّ تصويره بأنه من كوكب آخر يتطلب تحالفاً دولياً يضم كل دول الأرض لمواجهة الآتي من هذا الكوكب، فنجحوا منفردين وموحَدين بالدفاع عن وجودهم وجذورهم وأرض أجدادهم في مواجهة كل محاولات «داعش» لتغيير معالم الجغرافيا والديموغرافيا في كوباني.

وليس بعيداً في الزمان ولا الجغرافيا من بطولات الأكراد، مجموعة مسيحية اعتقد كثيرون أنّ إسقاطها وإخضاعها وتركيعها وترحيلها مسألة ساعات لا أيام، فنجحت في الصمود ١٥ عاماَ وفي إبقاء مساحة لبنانية حرة في مواجهة منظمة التحرير في المرحلة الأولى، والجيش السوري في المرحلة اللاحقة، وما بينهما مجموعات أتت من كل أصقاع الأرض لمقاتلة «الكفار» في لبنان.

ونجاح الأكراد اليوم، والمسيحيون بالأمس ليس ظاهرة غريبة ولا جديدة، إنما مردّه إلى الأسباب الآتية:

أولاً، وجود جماعة مسالمة بتكوينها، إنما مستعدة للقتال حتى الرمق الأخير دفاعاً عن سلامها وحريتها. فخيار القتال والذهاب إلى الحرب ليس خياراً ساقطاً في حساباتها، إنما هو أحد الخيارات الذي تلجأ إليه وقت الحاجة القصوى.

ثانياً، الديموغرافيا تلعب دوراً مهماً لجهة وجود كتلة شعبية متراصة، وحتى لو كانت أقلية، إنما استعدادها للدفاع عن خصوصيتها يمكِّنها بفعل تقاطع عوامل داخلية وخارجية من المواجهة والصمود.

ثالثاً، الجغرافيا تشكل عاملاً مهماً من زاوية وجود مساحة يصعب تطويقها براً وبحراً وبيئة حاضنة.

ففي حال توافر العناصر الثلاثة الأساسية المشار إليها وهي: وجود جماعة مستعدة للقتال، وديموغرافيا مقبولة وطبيعة جغرافية مناسبة، فإنّ التدخل الدولي لمساعدتها يصبح ممكناً. ولكنّ التعويل على الخارج ليس عاملاً أساسياً، لأنّ الأساس يكمن في التعويل على الذات، حيث إنّ المعبر والمدخل للخطوط الحمر الدولية هو إثبات القدرة على المواجهة والقتال والصمود، وبالتالي الخارج هو العامل المساعد فقط، فيما القوة الذاتية هي العامل المقرِّر والموجِّه والمحدِّد.

فلولا صمود المسيحيين في العام ١٩٧٥ لما أمكن الكلام عن خطوط حمر ودعم دولي وتحالفات خارجية، فيما سقوطهم كانت كلفته لن تتجاوز بيانات التنديد والاستنكار والعروض لاستقبال المهجرين. فمخطئ مَن يعتقد بأنّ أيّ دولة في العالم ستدافع عنه إذا لم يدافع عن نفسه، وفي لحظة دفاعه عن ذاته يجعل التقاطع مع أيّ دولة ممكناً انطلاقاً من حساباتها ومصالحها، أيْ نوع من تقاطع مصالح طبيعي في ظروف من هذا النوع.

والمثل المناقض لأكراد كوباني هو مسيحيو الموصل الذين تُرِكوا لقدرهم ومصيرهم، فيما لو حاولوا المقاومة لأسبوعين لا أكثر لكانوا بالتأكيد استدرجوا تدخلاً خارجياً لحمايتهم، ولكن على رغم ذلك لا يجب تحميلهم أكثر من قدرتهم على الاحتمال، لأنّ تاريخهم وطبيعتهم وظروفهم وجغرافيتهم لا تسمح لهم بذلك. وما ينطبق عليهم ينسحب على الإيزيديين.

فأهمية معركة كوباني أنها أسقطت هذا التضخيم المقصود لحجم «داعش» والتي صورت أحياناً بأنها ستجتاح المعمورة، فيما عجزت عن إسقاط عين العرب، وهذا التضخيم له وظيفة ودور. وإذا كانت الأسباب المباشرة لنشوء «داعش» الحرب السورية التي يقودها النظام على شعبه وكسر إرادة أهل سنّة في سوريا والمنطقة، فقد تمّ توظيفها من جهتين: محور الممانعة من أجل حرف الأنظار عن معاركه وارتكاباته، وتبييض صفحته وصورته، ومحاولته إبرام عقد جديد مع الغرب بتفويضه مواجهة الإرهاب، وتصويبه على السعودية بأنها تقف خلفه، علماً أنّ الرياض هي الدولة الوحيدة التي وضعت كل ثقلها للتصدي لهذه الحالة.

والمجتمع الدولي من أجل إنهاك كل أخصامه على الأرض السورية، وجعل أولوية الإرهابيين أرض الشرق لا الغرب.

وفي كل هذا المشهد، إنّ التساؤل عن الأسباب التي أدت إلى انهيار الجيش العراقي في الساعات الأولى للمواجهة مع «داعش» مشروعٌ، خصوصاً بعد كشف رئيس وزراء العراق حيدر العبادي عن وجود ٥٠ ألف جندي وهمي في أربع فرق عسكرية، فهل الفساد هو فعلاً وراء انهيار هذا الجيش، أم أنّ الفساد هو مطية للتغطية على وجود قرار بفتح الباب أمام تمدّد هذا التنظيم الإرهابي للأسباب المُشار إليها وغيرها؟ وهل كان باستطاعة «داعش» إعلان دولتها وإمارتها لولا نجاحها في العراق؟

وهل يُعقل أن تنجح مجموعة مقاتلين أكراد غير منظمين ولا مجهّزين في ترسيم حدود هذا التنظيم، فيما يفشل الجيش العراقي الذي كلف إعادة تجهيزه وتدريبه مليارات الدولارات؟

ويبقى أن تجربتَين مشرقتَين تستحقان كل التقدير: المسيحيون في لبنان، والأكراد في كوباني.