مع قرب جلسة إنتخاب رئيس للجمهورية في ٣١ تشرين الأول، يُعلّق المواطن اللبناني آمالًا كثيرة على العهد الجديد لكي يُخرج لبنان من الأزمة الإقتصادية والمالية المزمنة. وهنا يُطرح السؤال عن الإستحقاقات التي ستواجه هذا العهد وكيفية مُعالجتها.
يعيش لبنان منذ العام ٢٠٠٥ بلا موازنة حيث يقوم بالصرف على أساس القاعدة الإثني عشّرية التي تمّ تخطّيها في كل العهود إلى درجة تضاعف فيها الإنفاق وزاد الدين العام بشكل كارثي من ٣٨.٥ مليار د.أ في العام ٢٠٠٥ إلى أكثر من ٧٣ مليار د.أ حاليا.
هذا الأمر تزامن مع حالة من عدم الثبات السياسي التي أدّت إلى تعطيل القرارات الإقتصادية بما زاد الزبائنية في الشأن العام وزاد معها الفساد والهدر. ومع تراجع الاقتصاد العالمي، زادت حدّة الأزمة الإقتصادية التي بدأت أثارها الفعلية بالظهورعلى الأرض منذ ستة أشهر.
بدأ الإنحراف الاقتصادي مع إسقاط حكومة الرئيس سعد الحريري في كانون الثاني ٢٠١١ حيث قامت دول الخليج العربي بفرض عقوبات غير مُعلنة على لبنان، وتمثلت بتراجع إستثماراتها في لبنان وتراجع عدد السواح الخليجيين إلى حدّ منعهم من القدوم إلى لبنان. ولكي يكتملّ المشهد، إندلعت الأزمة في سوريا في شباط ٢٠١١ وأخذت جحافل النازحين السوريين بالوفود إلى لبنان مع غياب السلطة السياسية وغرقها بالمشاكل الداخلية.
هذا الواقع ادّى إلى ضرب الاقتصاد والمالية العامة في لبنان بشكلّ لم يتوقعه أصحاب القرار. فالإقتصاد الذي يقوم على عامودين أساسيين هما الإستثمار والإستهلاك، شهد تراجع الإستثمارات إلى أقلّ من النصف في ظرف عدة سنوات مما أدّى إلى تراجع الماكينة الإقتصادية التي تضرّرت نتيجة العمالة السورية، مضاربة النازحين السوريين لأرباب العمل اللبنانيين، غياب القرارات الإقتصادية، إقفال الحدود البرّية…
إستمرّ الإستهلاك على وتيرته بفضل تحاويل المُغتربين اللبنانيين الذي إستمرّوا بإرسال الأموال بالوتيرة نفسها تقريبًا. وإذا كان هذا الأمر بالجيّد، إلا أنه إن دلّ على شيء انما يدلّ على إضمحلال الماكينة الإقتصادية التي لا تستطيع توظيف شبابها وبالتالي يُمكن تشبيه الأمر كأنه تمّ نقل هذه الماكينة (أو أقلّه قسم منها) إلى الخارج.
ماليا، فشلت السلطة السياسية في إحتواء هذا الكمّ من المشاكل وتترجم هذا الفشل بزيادة العجز ومعه الدين العام. ولكي تصحّ المقولة «كل شيء في لبنان يتمّ على حساب الخزينة العامّة»، أخذ الهدر والفساد بالإزدياد مع غياب المُحاسبة. وإستفحل الفساد والهدر في غياب العمل المُنتظم للمؤسسات الدستورية الناتج عن الشغور الرئاسي، كما غابت القرارات الملائمة لتصحيح الوضع القائم.
اليوم نحن موعودون بعهد جديد (رئيس وحكومة ومجلس نواب) يبدأ الإثنين المُقبل. هذا العهد سيواجه إستحقاقات إقتصادية ومالية لا مثيل لها تستوجب خطة عمل مُحكّمة.
الإستحقاقات الإقتصادية
مما سبق نرى أن الوضع الاقتصادي اللبناني هو في حالة مُزرية. لذا للتمكّن من معالجة المُشكلة يجب التعامل مع هذا الوضع بمنهجية تلائم الواقع الإستثنائي لهذا الاقتصاد، أي يجب معالجة الأمور الأكثر إلحاحًا قبل الولوج في معالجة جذرية:
١- الماكينة الإقتصادية اللبنانية تبقى المُشكلة الأكثر حرجا، فهذه الماكينة أصبحت مُستهلكة ولا يُمكنها أن تعمل في غياب الإستثمارات. من هذا المُنطلق يتوجب وضع خطة لجذب الإستثمارت الخارجية والداخلية. خارجيًا، يجب العمل على تفعيل الدبلوماسية الإقتصادية بشكل راقٍ وفعّال على غرار ما تفعله الدبلوماسية الغربية. وهنا يُمكن ذكر الدول الخليجية خصوصا إذا ما تمّ تكليف الرئيس سعد الحريري بمهام رئاسة الحكومة.
أيضا يُمكن ذكر الولايات المُتحدّة الأميركية والبرازيل وكل الأماكن التي يتواجد فيها اللبنانيون. أمّا داخليا، فيتوجّب إقرار قانون الشراكة بين القطاع العام والخاص بغية توفير التمويل اللازم للبنى التحتيّة والفوقية وإستخدام معرفة القطاع الخاص على المنصّة العامّة. بالطبع كل هذا يستوجب وضع سياسة ضريبية ملائمة تسمح بجذب رؤوس الأموال.
٢- يحتلّ سوق العملّ اللبناني المرتبة الثانية في سلمّ أولويات المعالجة السريعة المطلوبة، إذ لا يُعقل أن نتحدّث عن ماكينة إقتصادية لا يعيش منها مواطنو الدوّلة المعنية!
على هذا الصعيد، يتوجّب على العهد الجديد حماية اليدّ العاملة اللبنانية لأنها الوحيدة التي تستهلك (العامود الثاني للإقتصاد) وذلك من خلال الرقابة الصارمة على القطاعات التي تُوظّف يدا عاملة أجنبية وتتخلصّ من نظيرتها اللبنانية (Social Dumping)! هذا الأمر يستوجب المحاسبة ومحاربة المحسوبيات وغيرها من الأمور التي تسمحّ لربّ العمل اللبناني بالتهرّب من واجباته كلاعب إقتصادي داخل الماكينة الإقتصادية.
٣- أكثر من ٨٠٪ من الإستهلاك اللبناني هو مُستورد! وهذا لا يوجد إلا في دول العالم الثالث. من هذا المُنطلق، يتوجّب على العهد الجديد تحديد لائحة بأول ٢٠ سلعة الأكثر إستيرادًا والعمل على إنشاء مصانع لها في لبنان. هذا الأمر له فوائد عدّة على رأسها تخفيف العجز في الميزان التجاري، تخفيف العجز في ميزان المدفوعات، توفير فرص عمل للبنانيين، زيادة الناتج المحلّي الإجمالي. هذا الأمر لا يتطلّب إلا الإرادة لتنفيذه.
الإستحقاقات المالية
الوضع المالي الحالي هو الأسوأ في تاريخ الجمهورية اللبنانية، فبين العجز في الموازنة والعجز في ميزان المدفوعات والدين العام، تتآكل المالية العامة إلى درجة أصبح لبنان يستدين لكي يستهلك وهذا الأمر هو الحضيض المالي. من هنا نرى أن على العهد الجديد معالجة عدد من النقاط الأساسية:
١- إقرار الموازنة في أسرع وقت لأن غيابها في فترة ١١ عاما ضاعف الدين العام الذي أصبحت زيادته إسّية (Exponential)! لايُمكن القبول بعد اليوم تحت أي حجّة كانت (قطع حساب، خلفيات سياسية..) أن يستمرّ الصرف على أساس القاعدة الإثني عشرية لأن في ذلك جرم في حق الأجيال المُستقبلية.
٢- العام ٢٠١٧ سيشهد إستحقاقات مالية كبيرة تتمثل بأكثر من ٨ مليار د.أ من ديون يجب تسديدها. هذا الأمر يستوجب التحضير له بطريقة دقيقة لأن إستدانة مثل هذا المبلغ نسبة الى حجم الإقتصاد اللبناني (٢٠٪ من الناتج المحلّي الإجمالي!) ليس بالأمر السهل ويتطلّب ضمانات كثيرة تحت طائلة عدم الإستحصال عليه أو تحت طائلة رفع الفائدة.
٣- يبقى الفساد والهدر المصدر الأساسي للعجز الذي تعاني منه المالية العامة. وبإعتقادنا فإن هذين البندين مسؤولين عن ١٠ مليار د.أ خسائر على الاقتصاد اللبناني منها ٥ مليارت خسائر مالية (تهرّب ضريبي، تهرّب جمركي، تحايل على المؤسسات العامة…). من هذا المُنطلق يتوجب على العهد الجديد أن يعمد إلى إقرار قانون لمحاربة الفساد وزيادة رقابة ديوان المُحاسبة والرقابة الضريبية.
بالطبع هذه الإجراءات لا تُشكّل خطة إقتصادية، إلا أنها إجراءات ضرورية يجب العمل عليها في أسرع وقت مُمكن لتفادي الوقوع في المحظور، أي الإفلاس.
في الختام لا يسعنا القول إلا أن مقياس نجاح العهد الجديد يكون بمدى قدرته على تطبيق القوانين في كل المجالات.