لا شك في أنّ المشهد اللبناني يعيش مرحلة صعبة وشديدة السواد ما بين الانعكاسات القاسية للانهيارات الاقتصادية والمالية، وبين تَفلّت الشارع والاحداث الدموية التي أخذت بعداً طائفياً، وبين ازدياد النزاعات السياسية وتفاقمها.
لكنّ الاكيد انّ الصعوبات والتعقيدات التي تظهر على الساحة اللبنانية تشكل جزءاً من الصورة الاقليمية الواسعة، وهي بالتالي تدخل في اطار النزاع قبل اعادة رسم خريطة النفوذ في المنطقة. وهو ما يعني انّ هذه المرحلة هي انتقالية، وهي تختزن كثيراً من المطبات الصعبة والخطرة قبل الولوج الى المرحلة اللاحقة. ففي المنطقة احداث كبيرة تدور ايضاً. ففي سوريا فتح ملف التفاهم حول التسويات المطروحة، وعادت الانفجارات والعبوات الى دمشق بعد اسابيع دامية جنوباً، وتحديداً في درعا. لكن التطورات العسكرية التي حصلت في جنوب سوريا احتضنت حركة قوية في الكواليس الديبلوماسية، خصوصاً بين روسيا والولايات المتحدة الاميركية واسرائيل، وشارك في جزء منها الاردن، طبعاً اضافة الى السلطات السورية والحلفاء الايرانيين. الواضح أنّ روسيا هي التي التزمت مشروع الحل في جنوب سوريا، ووضعت خريطة طريق يجري العمل على تطبيقها، وهي باتت في آخر مراحلها.
ولم تكن مصادفة ان تتحرك جبهات ادلب في الشمال السوري حيث الحضور العسكري التركي الذي وضع مظلة فوق الفصائل الموالية له. روسيا ايضاً هي الطرف الاساسي الذي يعمل على ترتيب واقع الشمال السوري، حيث تشارك الطائرات الحربية الروسية في غارات هي أشبَه برسائل حربية وتثبيت خطوط، ما أزعَجَ تركيا.
وفي العراق اعادة فتح ملف التسويات وبازار المقايضات، ولكن من خلال النتائج التي أظهَرتها صناديق الاقتراع.
في نهاية الامر هنالك من يتوقع «نجاح» ايران في اعادة احتضان مقتدى الصدر الذي خرج منتصراً من الانتخابات الاخيرة. لكن ثمة تفاهمات لا بد من إتمامها قبل ذلك، خصوصاً انّ العراق يمثّل المنطقة الحيوية الأهم لإيران. أضف الى ذلك التحديات الاقليمية المستجدة امام ايران، ما بين افغانستان ومُسارعة تنظيم داعش الى اختصار الوقت وتركيز عملياته على المكوّن الشيعي، وما بين اذربيجان حيث الحضور الاسرائيلي المميز والتركي القوي، وهو ما يحرّم الاقلية الآذارية داخل ايران.
وسط كل ذلك، بَدا ان الوقت أخذ ينفد امام العودة الى الاتفاق النووي، والمقصود هنا تفاهم المشاكل الداخلية امام ادارة الرئيس الاميركي جو بايدن، وايضاً تراجع شعبية الحكومة الاسرائيلية، ما يُعيد فتح احتمالات عودة بنيامين نتنياهو الى الحكم وهو يحلم بالثأر من بايدن، حيث سيشكل الاتفاق النووي افضل ساحة لذلك.
لذلك، باشرت واشنطن في توجيه الاشارات بأنها في صدد التحضير للخيار البديل عن المفاوضات والمقصود هنا خيار العمليات العسكرية. ولم يكن من باب الصدفة ابداً أن توافق اسرائيل على وضع ميزانية تبلغ حوالى مليار ونصف مليار دولار مخصصة لتمويل متطلبات ضربة محتملة ضد البرنامج النووي الايراني. لكن حتى الآن ما تزال هذه الخطوة بمثابة الاشارة، ولكن المتقدمة.
فالمفاوضات حول النووي ستستأنف قريباً جداً مع اقتناع الجميع بأن الوقت استنفد. وعلى وَقع هذا المفهوم، تحرّكت ساحات سوريا والعراق وافغانستان واذربيجان، وعلى وقع المبدأ نفسه تحركت الساحة اللبنانية ايضاً.
لكنّ هذه الاهتزازات هدفها توجيه الرسائل والتحضير للمرحلة اللاحقة. هي مرحلة خطرة ولكنها ليست مفتوحة على المواجهات والنزاعات العنيفة، بل على الترتيبات والتسويات. وكان لافتاً ان تدرج نائبة وزير الخارجية الاميركية فيكتوريا نولاند بيروت في برنامج زياراتها، بعد محطة موسكو. وشاءت المصادفات ان تشاهد عن كثب الاحداث الخطيرة التي ألهَبت منطقة الطيونة في بيروت. صحيح أنها تلقت تقارير متتالية من السفارة الاميركية حول تطورات الوضع، لكنها لم تُبدِ هلعاً حيال ما يحصل، فهي تعرف تماماً انّ لاستخدام «العضلات» العسكرية حدوداً لن يتجاوزها أحد، لأنّ المنطقة بأسرها تعيش اهتزازات لها علاقة بترتيب اوراق المفاوضات وليس الذهاب الى الحروب.
ad
في زيارتها للبنان أرادت نولاند القول ان واشنطن مهتمة بالملف اللبناني، وهي لن تتخلى عنه او تتركه لغيرها. ما يعني ان لبنان لا يدخل في اطار تبادل المصالح، بل ثمة حاجة لإعادة ترتيب الاوراق اللبنانية المبعثرة. وجاءت زيارتها بعد زيارة وزير الخارجية الايرانية الذي اراد أن يقول ان ايران موجودة بقوة في لبنان.
وفي زيارة نولاند ايضاً اهتمام واضح بملف الترسيم البحري، وهي وجّهت اشارات مَرنة في هذا المجال، ولمست نيات متفاوتة وايجابية لدى الجانب اللبناني. طبعاً من المفترض ان يكون الجانب اللبناني قد تفاهم مع كل الاطراف اللبنانية المؤثرة بملف الترسيم البحري. ولا شك في أن واشنطن استوقفها في خطاب الامين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله حديثه عن وجود 100 الف مقاتل في صفوفه. وهذا ما ركّز عليه خصوصاً الاعلام الاميركي، ذلك ان واشنطن تدرك جيداً أن المقصود بكلام نصرالله توجيه رسالة الى اسرائيل اكثر منه الى الداخل اللبناني، وكان واضحاً الاهتمام الاسرائيلي بما قصده نصرالله.
واشنطن كانت قد سمعت قبل ذلك أن «حزب الله» متمسك بفصل ملف ترسيم الحدود البحرية عن اي «قطبة مخفية» تفتح احتمالات التطبيع لاحقاً مع اسرائيل. فالواضح ان الادارة الاميركية تفتح الابواب امام تطبيع العلاقات الاسرائيلية مع العالم العربي، وان الضغط الاميركي الحاصل الآن على السعودية يحمل في احد جوانبه هذا الهدف، ولو تحت عنوان فَرز دول المنطقة بين حلفاء ايران وأخصامها.
ad
وعلى خط موازٍ لا بد من «إنعاش» الدولة اللبنانية بخطوة اصلاحية تحت هول المأساة الاقتصادية التي تهدد الكيان المهترئ للدولة. فبعد الجلسة الصدامية لمجلس الوزراء حول المحقق العدلي وتجميد اعمالها، وما استتبع ذلك من احداث دموية، بَدت فرنسا مهتمة بِمَد حكومة الرئيس نجيب ميقاتي بجرعة منشطات. وقيل ان مشاورات سريعة حصلت من اجل الاسراع في انجاز ملف الكهرباء بمساعدة فرنسية فاعلة.
فباريس القلقة ايضاً من الارتجاجات العنيفة الحاصلة في لبنان، تدرك انها ستغرق في حمى الانتخابات الرئاسية مع مطلع السنة المقبلة. ولكن ثمة جديداً هو أن الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، والذي كان يراهن على مواجهة مع مارين لوبين في الدورة الثانية تجعل حظوظه مضمونة، في تكرارٍ للانتخابات الرئاسية الماضية، ظهَر أمامه مرشح جديد، هو ايريك زيمور، قادر على تهديد حظوظه. والاهم ان زيمور الذي ينتمي الى الطائفة اليهودية، صاحب افكار يمينية متطرفة. في وقت أظهَر آخر استطلاع تراجع شعبية ماكرون الى 24 % فقط. وفي حال ذهبت الامور في فرنسا في هذا الاتجاه، فعلى لبنان ان يقلق كثيراً بحيث سيفقد الحاضنة الفرنسية ومعها الحاضنة الاوروبية، في مشوار استعادة عافيته الاقتصادية. لكن وعلى رغم هذه الغيوم، ثمّة همسات في الكواليس الديبلوماسية عن مرحلة نهوض قوية بعد تجاوز المرحلة الانتقالية التي نمر بها، والحافلة بالمطبّات والاهتزازات. وعلى رغم رائحة البارود والوجع المتصاعد نتيجة الكوارث الاقتصادية والمالية، كانت اشارة لافتة تتمثّل باهتمام شركات عالمية كبرى بالاستثمار في لبنان لاحقاً، حيث يقوم موفدون لهذه الشركات بإرسال خبراء ووضع التقارير في مجالات عدة، لا سيما منها الاستثمار العقاري في الجنوب، والاستثمار الصناعي والسياحي. ولقد علّمتنا الاحداث ان هذه الشركات لا تتحرك عادة إلا بناء على نصائح من مراجع دولية نافذة هي تدرك ان هذه المرحلة الانتقالية الصعبة ستنتهي يوماً ما، وعلى امل أن لا تطول. وسيكون المؤشّر الواضح للانتقال الى المرحلة الجديدة انتخاب رئيس جديد للجمهورية، والذي سيسبقه حُكماً تفاهمات كاملة للمراحل المقبلة.