حبل الإستقالات على الجرّار… وشبح غياب التمويل والتخطيط يلفّ مصيرهم
الدبلوماسية اللبنانية لم تسلم برمّتها من شظايا الأزمات الراهنة. والحديث عن تقليص بعثات وإلغاء أخرى وعن عجز في تحويل نفقات تشغيلية ورواتب سفراء وملحقين لم يعد سرّاً. الملحقون الاقتصاديون ليسوا بمنأى عما يحصل. ثمة من يرى في تعيينهم هدراً يكبّد الخزينة ملايين الدولارات سنوياً بلا إنجازات تُذكر. وهناك من يعتبر استمرارهم ضرورة لا بدّ من أن تترافق مع خطة اقتصادية شاملة. وبين هذا وذاك، يعيش هؤلاء في تخبّط يهدّد مستقبل مهنتهم ومصير عائلاتهم.
تعزيز السفارات بملحقين اقتصاديين وتجاريين أمر دأبت عليه دول كثيرة منذ القرن الماضي تأميناً لمصالحها وتعزيزاً وتنمية لروابطها الاقتصادية والتجارية مع الدول الأخرى. هذه التجربة غابت عن لبنان حتى العام 2019 حين تمّ تعيين 20 ملحقاً اقتصادياً بعد خضوعهم لدورات تدريبية عدة في لبنان والخارج، وتوزّعوا على سفارات لبنان في العواصم التالية: بروكسل، بغداد، الرياض، أبو ظبي، عمّان، القاهرة، الكويت، موسكو، واشنطن، باريس، برلين، بكين، برازيليا، مكسيكو، أبوجا، أبيدجان، لندن، طوكيو، بريتوريا وأوتاوا.
الجدل حول التخلّي عن الملحقين الاقتصادين، بهدف عصر النفقات، أو استبدالهم بدبلوماسيين من الإدارة، يتزايد. لكن يبقى السؤال عن مصير هؤلاء ودورهم إن كُتب لخطط الإصلاح والنهوض الاقتصادي المرتقبة أن تبصر النور.
بين المهام والواقع
المهام المنوطة بالملحق الاقتصادي اختصرها المرسوم رقم 3040 بتاريخ 25/03/1972 بما يلي: جمع ودراسة المعلومات الاقتصادية والتجارية والمالية واكتشاف الأسواق الممكنة للمنتوجات وإمكانية توظيف رؤوس الأموال الأجنبية في لبنان؛ إجراء اتصالات مع سائر الجهات المعنية بالشؤون الاقتصادية والصناعية والتجارية والمالية والسياحية لتعريف لبنان وإمكاناته وإيجاد الأسواق له؛ تحرير المقالات وإلقاء المحاضرات عن الخدمات والسياحة في لبنان وتشجيع تنظيم الرحلات السياحية إليه؛ وتنظيم المعارض والأسواق والمؤتمرات والاشتراك في اجتماعات وأعمال الهيئات الدولية وعقد المعاهدات والاتفاقات الدولية.
ثم على الملحق الاقتصادي تقديم المعلومات والمشورة لرجال الأعمال اللبنانيين وتأمين الصلة بينهم وبين نظرائهم في الخارج؛ كما السعي لتسوية النزاعات التجارية بين اللبنانيين والأجانب؛ وتأمين التعاون مع وزارتي الاقتصاد الوطني والزراعة ومكتب الفاكهة والغرف التجارية والصناعية وجمعيات الصناعيين والتجار اللبنانية؛ ناهيك بوضع تقارير شهرية وسنوية شاملة عن الحالة المالية والاقتصادية لا سيّما في ما يختص بتصريف المنتجات اللبنانية. فهل يقوم الملحقون فعلاً بهذا الدور؟
الخبير الاقتصادي البروفسور جاسم عجاقة أشار في اتصال مع «نداء الوطن» إلى أن الملحق الاقتصادي هو من أوكل إليه «بيع صورة لبنان بشكلها التجاري – التقني (Technico-Commercial)»، من خلال تسويق البضائع اللبنانية وجذب الاستثمارات. لكنه تساءل في الوقت عينه: «لا نعلم ما هو الدور الذي قام به هؤلاء منذ تعيينهم على أرض الواقع، ولا حتى إن كانوا نفّذوا المهام الموكلة إليهم بحسب القانون، خاصة في ظلّ الوضع الاقتصادي الحالي في لبنان حيث لا إنتاج ولا تصدير ولا استثمارات». تساؤل يحمل كثيرين على المطالبة بعودة الجزء الأكبر من الملحقين إلى لبنان، أقلّه إلى حين وضع دراسة استراتيجية دبلوماسية لناحية تفعيل الاقتصاد اللبناني.
للإجابة عن ذلك، تواصلت «نداء الوطن» مع وزير الاقتصاد والتجارة السابق، رائد خوري، الذي اعتبر أن وجود أشخاص مختصين في السفارات حاجة ماسة، لا سيّما أن لبنان يعتمد على المغتربين وعلى قوّتهم الاقتصادية إن في السياحة أو في التبادل التجاري. «لكن الملحق الاقتصادي لا يمكنه تحقيق المعجزات في ظلّ غياب أي خطة أو رؤية اقتصادية وسياسية وأمنية، بحيث لن يجد المستثمر ما يشجّعه على توظيف أمواله في لبنان»، بحسب خوري.
وفي حين شبّه الوضع الحالي كمن يتقن فن البيع لكن ليس لديه ما يبيعه، أكّد خوري أن الصناعات الزراعية كالنبيذ وغيره لا يمكنها النهوض بالاقتصاد اللبناني، إذ يجب التوجّه إلى قطاعات أكثر ربحيّة كالسياحة والخدمات وجذب الاستثمارات. لكن بسبب غياب الرؤية السياسة الواضحة للدولة، بات الملحقون «مش عارفين شو لازم يعملوا» ولم يتمكّنوا من تحقيق هدفهم الأساسي، أي جذب الاستثمارات وإدخال العملة الصعبة إلى البلد.
«الفكرة جيّدة لكنها غير مكتملة. كلّ يعمل على حسابه بدلاً من وجود تنسيق وتوجيه من قِبَل وزارتي الاقتصاد والخارجية»، والكلام دوماً لخوري الذي لفت إلى أن الحل هو في إبقاء الملحقين في الخارج شرط أن تواكب عملهم توجيهات واضحة وأن يُصار إلى تفعيل دورهم بشكل مدروس ومنظّم.
العمل تحت الضغط
مؤيّدون ومعارضون، كما في كل شيء. للوقوف على معاناة الملحقين الاقتصاديين، توجّهت «نداء الوطن» إلى مصدر دبلوماسي مطّلع، حيث اعتبر أن المعاناة الأساسية بدأت أولاً بطريقة تعيينهم، إذ خضع ذلك إلى نظام وزارة الخارجية والمغتربين الذي أجاز للوزارة المذكورة التعاقد مع ملحقين اقتصاديين من خارج الملاك بعد موافقة مجلس الخدمة المدنية ضمن شروط وُضعت بمرسوم صدر عن مجلس الوزراء. من هنا، أتاح عدم انتظام وضعهم الوظيفي – كون تعيينهم استند الى عقود تُجدَّد سنوياً – للبعض طرح فكرة وقف عمل الملحقين كحل لمسألة تخفيض نفقات الوزارة وتأمين الاعتمادات للتشكيلات الدبلوماسية. وهو واقع استحال عامل ضغط على الملحقين، ما دفع بثلاثة منهم لتقديم استقالاتهم مؤخّراً (بكين، مكسيكو، بريتوريا)، ليصبح عددهم 17 حالياً.
العقبات لا تقف عند هذا الحدّ. فغياب الخطة الاقتصادية ومتابعة الإدارة للملحقين كما أي رؤية أو توجيه أرغم هؤلاء على اللجوء إلى المبادرات الفردية. وقد نجح بعضهم في إطلاق مبادرات بالشراكة مع هيئات القطاع الخاص في لبنان والهيئات المحلية في دول اعتمادهم في حين ساد جوّ من عدم الانسجام بين بعض السفراء والملحقين ما انعكس سلباً على عملهم. إشكالية إن دلّت على شيء فإنما تدل على تقهقر القرار المركزي في الدولة وتخبّطه.
أما الرواتب، فيشير المصدر إلى أن آخر راتب تقاضاه هؤلاء كان في حزيران الماضي (حتى كتابة هذه السطور). وتشير المعلومات إلى أنه سيجري تأمين الرواتب حتى نهاية العام الحالي، لكن ثمة تخوّفاً من عدم امتلاك مصرف لبنان القدرة على إيجاد آلية مناسبة لتسديد رواتب الملحقين والدبلوماسيين مع بداية السنة الجديدة. وقد تصبح عندها الاستقالات الحل الوحيد.
نسأل المصدر نفسه أين نجح الملحقون، فيجيب: «هناك مجالات كان الإنتاج فيها «صفراً» مثل جذب الاستثمارات وهذا شيء مستحيل في لبنان. أما على صعيد العلاقات على مستوى الحكومات، فقد نجح بعض الملحقين بتذليل بعض العقبات وتفادي بعض القرارات بحظر المنتجات الزراعية اللبنانية. في حين نجحوا في الشق التجاري بنسبة 80 إلى 90% من خلال مساعدة شركات كثيرة على إدخال منتجاتها إلى الأسواق العالمية».
ماذا عن إمكانية استدعاء الملحقين إلى لبنان؟ «من الناحية القانونية، لا يسمح القانون بذلك كونه يجيز لوزارة الخارجية التعاقد مع ملحقين اقتصاديين في سفاراتها في الخارج، أي أن مقر عمل هؤلاء بحسب القانون هو السفارات وليس الإدارات في الداخل. أما المشكلة الأخرى، فهي عدم توفّر رواتب لهم بالليرة في الداخل، إذ يتقاضون رواتبهم بالدولار في الخارج»، كما يقول المصدر. ويضيف معتبراً أن فعاليّتهم ستتراجع تدريجياً كون العمل مبنياً على العلاقات التي يصعب المحافظة عليها وتطويرها في حال عودة الملحقين إلى لبنان والعمل من داخل الإدارة: «أبلغنا الدولة أن الحل هو فسخ العقود لو كان وجودنا هو المشكلة. وإذا كان الأمر يقتصر على الحد من تكاليف تعييننا، فيمكن اعتماد مبدأ المداورة بما يسمح بتواجد 8 ملحقين في الخارج ومثلهم في الداخل في أي وقت. لكن يبدو أن الدولة غير قادرة على تحديد المشكلة». وينهي المصدر: «يريد الملحقون جواباً قاطعاً، إما سلباً أم إيجاباً، إذ لا يمكنهم البقاء في المجهول. العودة تعني النهاية ومغادرة وزارة الخارجية، إلا إذا تم ذلك من ضمن خطة مستقبلية متكاملة».
قفزات… متواضعة
ننتقل إلى رئيس تجمّع الصناعيين في البقاع، نقولا أبو فيصل، الذي أشار بداية في حديث لـ»نداء الوطن» إلى ارتفاع قيمة الصادرات اللبنانية إلى الخارج في السنوات الأخيرة بشكل ملموس، على تواضعه نسبياً، بالرغم من الظروف الصعبة التي تواجه قطاعات الإنتاج كافة. وقد كان، بحسب رأيه، للدبلوماسية الاقتصادية مساهمة أساسية في ذلك عبر الترويج للمنتجات اللبنانية وخلق روابط تجارية بين المصدّرين والمستوردين وتذليل المعوقات التجارية واللوجستية. إلا أن المساهمات بقيت في إطار المبادرات الفردية دون وجود خطة مركزية رؤيوية تنضوي تحتها مختلف الوزارات والإدارات المعنية بتشجيع الصادرات وجذب الاستثمارات الخارجية. «من المنتظر أن تحمل خطط الحكومة للنهوض الاقتصادي رؤية واضحة لدعم القطاعات الإنتاجية، ونأمل أن تُترجم من خلال خطة عمل مركزية تكون الدبلوماسية الاقتصادية إحدى أدواتها»، يقول أبو فيصل.
الملحقون الاقتصاديون يعملون في ظروف صعبة فرضتها الأزمة الاقتصادية الداخلية وفاقمتها الأزمات الدولية المتتالية، بحيث تحوّل عملهم إلى الجانب الإغاثي بالتعاون مع الهيئات المحلية والجاليات اللبنانية في دول اعتمادهم، كما يضيف: «لقد نشط هؤلاء في نسج شبكات اغترابية قوامها أبناء الجاليات اللبنانية ورجال أعمال مهتمّون بالعمل مع لبنان ما ساهم في فتح الأسواق أمام المنتجات اللبنانية وتأمين فرص عمل للبنانيين وخلق شراكات تجارية مع شركات لبنانية. وقد أرست هذه التجارب في معظمها آليات عمل نموذجية في الشراكة بين القطاعين العام والخاص».
البحث عن حلول
نسأل إن كانت إعادة الملحقين للعمل من داخل الإدارة المحلية خطوة صائبة، فيردّ أبو فيصل: «تبلغ الكلفة الإجمالية لتعيين الملحقين الاقتصاديين مليوني دولار سنوياً وهي لا تشكّل أكثر من 3% من مجموع رواتب السلك الدبلوماسي. كما أن طبيعة عملهم تتطلب عناصر بشرية متخصصة في الشؤون الاقتصادية من ذوي الخبرة في المجالات التجارية قد لا تكون متوفرة لدى موظفي الملاك. أما فكرة استدعائهم إلى الإدارة المركزية، فهي غير مضمونة النتائج وستؤدي حكماً إلى إضعاف شبكات العلاقات التي نسجها الملحقون في بلدان اعتمادهم وإلى تراجع أدائهم وفعاليّتهم»، على حدّ تعبيره.
الحل من وجهة نظره يكمن في تفعيل الدبلوماسية الاقتصادية من خلال عدد من الإجراءات، أبرزها: وضع خطة عمل مركزية للدبلوماسية الاقتصادية من قِبَل وزارة الخارجية والمغتربين والوزارات والإدارات المعنية بالقطاعات الإنتاجية وهيئات القطاع الخاص، تُحدَّد بموجبها الأسواق التي يجب العمل على تنمية العلاقات التجارية معها والسلع التي يجب الترويج لها والأدوات التي يمكن استخدامها في تطبيق هذه الخطة.
وبما لا يقل أهمية، يتعيّن بحسب أبو فيصل إعادة النظر في خارطة انتشار الملحقين الاقتصاديين بناء على معايير اقتصادية موضوعية تعطي الأفضلية للأسواق الجديدة وتأخذ بالاعتبار القدرة التنافسية للسلع والخدمات اللبنانية. أضف إلى ذلك تعزيز دور مديرية الشؤون الاقتصادية في وزارة الخارجية لمواكبة عمل الملحقين في الخارج والتنسيق مع الإدارات الرسمية وهيئات القطاع الخاص في لبنان. ويختم بالإشارة إلى وجوب تأمين انتظام الوضع الوظيفي للملحقين عبر تثبيتهم في ملاك وزارة الخارجية التي هي بحاجة إلى خبراتهم للارتقاء بعملها في مجال الدبلوماسية الاقتصادية وتعزيز كوادرها البشرية، ما يؤمن الاستدامة لخطط الوزارة مستقبلاً.