دخلْنا المحظور. المسألة لم تعُد في كيفية تلافي الإنهيار، بل في كيفية إيقافه. والسؤال الذي على كل شفة ولسان: هل أدركت السلطة الدرك الذي بلغناه؟ إن لم تدرك بعد فهذه مصيبة، وإن هي مدركة وما زالت تتشاور في ما بينها لتشكيل حكومة، فهذه مصيبة أعظم.
هل من مستشار أو متابع أبلغ أولياء الأمر أن سندات الخزينة اللبنانية المتداولة في الأسواق المالية العالمية وفي اليومين المنصرمين، فقدت قرابة 50 في المئة من قيمتها؟ هل من يعي وقْع هذا التدهور على المالية العامة، وعلى ميزانية المصارف ومصرف لبنان التي تحمل الحصة الأكبر من هذه الأصول السيادية؟ وهل من يعي أثر هذا الإنحسار على وضع الودائع والمودعين كما على نظرة الخارج الى لبنان؟ وبالتالي، كم هذا يقيّد، لا بل يُعيق إمكانية الخروج من الأزمة؟
هل مَن نقَل لصانعي الحكومات أو لمعطّلي تشكيلها سعر النقد الوطني المتداول في الأسواق المحلية؟ وهل من يردّد على مسامعهم أن الليرة اللبنانية، أي القدرة الشرائية للمواطن اللبناني، فقدت 20 في المئة من قيمتها، وأن سعر صرفها هذا ماضٍ في مسارٍ إنحداري؟
هل مَن أخبر أهل السلطة أن معظم الشركات والمؤسسات بدأت بنظام الدوام النصفي، ولم تدفع الشهر المنصرم أكثر من نصف راتب، حتى أن بعضها بدأ بتسريح عدد من موظفيه لأنه غير قادر على مواجهة التراجع في المبيعات، نتيجة الركود وانحسار القدرة الشرائية وارتفاع كلفة ديونه لدى المصارف اللبنانية؟ وأن قرار هذه الأخيرة بتجميد تسهيلاتها التمويلية لكافة العملاء جاء بمثابة الصاعقة على قطاع الانتاج، حيث أنه يدفع الكثير من الشركات الى إقفال أبوابها بعدما جفّت مصادر تمويلها؟ وأن هذا يعني دفع أكثر من نصف مليون عامل الى الشارع وحرمان عائلاتهم من أي مدخول؟ هل قرأ أعوان أهل القرار ومستشاروهم ما صدر عن البنك الدولي الأسبوع الماضي والقائل أن 50 في المئة من الشعب اللبناني سيتجاوز عتبة خط الفقر إذا لم يُصَر الى حلّ فوري للأزمة الراهنة؟
هل مَن نقَل لنواب الأمّة الصامتين صمتاً مريباً بعدما أفعمونا خطابات ووعوداً في معارك انتخابية لم يمضِ عليها زمن طويل، وبعدما ملأوا الجدران بصورهم العملاقة أن ناخبيهم لم يحصدوا شيئاً من التغيير الموعود، إنما إزدادوا فقراً وتهميشاً؟ آمالهم معلّقة ووظائفهم في مهبّ الريح، حتى مدّخراتهم وجنى أعمارهم لم تعد في مأمن.
أسئلة كثيرة برسم السلطة وأهلها، ومع ذلك، لا يبدو أنها تصغي للصوت الهادر في الساحات. صوت صاخب صحيح لأنه نابع من معاناة قاسية. لكنه صوت عاقل، لأن ما يطرحه من وجوب تشكيل حكومة تكنوقراط ويقصد بها حكومة من خارج منظومة السلطة وأعوانها، حكومة “أوادم” وأكفّاء، هو خشبة الخلاص الوحيدة. هو الطرح الذي يُعيد ربط ما انقطع بين الدولة وشعبها وبين لبنان والمجتمع الدولي. غريب أن تأتي من الشارع الصاخب الطروح العقلانية والحلول الجدية، بينما السلطة مستمرّة في المراوحة والرهان على إعادة إنتاج نفسها والأزمات معها.