عاشت ألمانيا بين الحربين العالميتين الأولى والثانية عدداً من الأزمات السياسية والإقتصادية والإجتماعية والنقدية، ذلك أن إتفاقية “فرساي” التي فُرضت عليها كانت قاسية بشكل استثنائي وقد ضمّنها الحلفاء تعويض خسائر الحرب وتكاليفها فكان ذلك عبئاً ثقيلاً جداً ما لبث أن فاقمته أزمة التضخم الهائل في الإقتصاد.
وتشير المعلومات إلى أن سعر الدولار الأميركي الواحد ارتفع من 4,21 مقابل المارك الألماني إلى نحو 4,620 مليون مارك وصولاً إلى 4,2 تريليون مارك في تضخم هائل وغير مسبوق. ولقد شكلت هذه العناصر توازياً مع اعتبارات سياسية أخرى، بطبيعة الحال، أبرز الأسباب لصعود النازية واليمين المتطرف بقيادة أدولف هتلر.
الأخطر من كل ذلك هو أن حالة الانهيار الإقتصادي الألماني وتنامي حالة الجوع الجماعي وتدهور العملة الوطنية وتآكل قيمتها الشرائية، ترافقت مع تقهقر سلم القيم المجتمعية الألمانية واندثار الطبقة الوسطى، وذلك نتيجة تردي الأوضاع العامة التي أججتها سياسات التجار وجشعهم والعاملون في مجال المضاربة وسوق الأسهم والعملات، الذين لم يضعوا نصب أعينهم سوى تحقيق الربح المادي الخاص ولو أدى ذلك الى انهيار المجتمع برمته.
ليست الغاية من إعادة سرد هذه الوقائع التاريخية تذكير الطلاب (وقد رُفّع الكسول منهم قبل النجيب إلى الصف الأعلى بفعل قرار وزير التربية)، إنما محاولة تشبيه ذاك الوضع مع الوضع اللبناني الراهن، طبعاً مع إدراك الفرق الشاسع سلفاً بين الامكانيات الإقتصادية الهائلة بين لبنان وألمانيا.
لكن المطروح مقاربة القضية من الزاوية الأخلاقية – الإجتماعية وليس من الزواية الإقتصادية المالية، النقدية التي تصعب فيها المقارنة إن الخلاصة الأكثر خطورة تتصل بالتلاشي التدريجي للقيم المجتمعية التي يرتكز عليها أي وطن أم دولة أم مجتمع. فعندما يطرق الجوع الأبواب، تسقط كل المحرمات ويصبح قسم كبير منها محلّلاً ومباحاً للجوعى والعطشى، وهذا من باب التوصيف وليس التأييد بالضرورة.
وهذا يقودنا مجدداً إلى خطورة الواقع القائم في لبنان حالياً لا سيما مع انطلاق المفاوضات العسيرة مع صندوق النقد الدولي بعد طول انتظار، وعلى ضوء تراجع التوقعات بحجم الدعم المتوقع والذي سيكون أقل من المطلوب على ما يبدو، فضلاً عن توزعه على مدى السنوات الخمس القادمة، ما يجعل توقع ورود كتلة نقدية كبيرة لتغيير الوضع النقدي والمالي الراهن أمراً غير متوفر، فضلاً عن المخاوف إزاء عدم إيفاء الدول والصناديق والهيئات التي شاركت في مؤتمر “سيدر” بالتزاماتها، نتيجة تفشي وباء “كورونا” وإيلاء تلك الدول أولوياتها لأوضاعها الداخلية. بالإضافة طبعاً إلى علاقات لبنان الخارجية السيئة التي قد تدفع عدداً من الدول الملتزمة إلى الانكفاء والامتناع عن تقديم الدعم المطلوب.
خلاصة الأمر أن التحديات التي تنتظر لبنان غير مسبوقة وبعضها يصل إلى حد التحديات الوجودية التي تتطلب معالجتها مقاربات جذرية مختلفة نوعياً عن أساليب العلاجات التقليدية القديمة، التي لم تؤدِ الغرض المطلوب منها في المراحل العادية، فكم بالحري في ما يتعلق بالمراحل الاستثنائية والدقيقة والصعبة كالتي يمر بها لبنان راهناً.