Site icon IMLebanon

أصحاب “الياقات البيضاء”… المُستفقَرون الجدد

حماوة الأزمة “تذيب” الطبقة الوسطى وتنحدر بالمحتاجة إلى الفقر المدقع

لبنان قد يفقد دوره الاستشفائي على صعيد المنطقة نتيجة هجرة الأطباء والممرضين
تمثل إعادة التوزيع غير العادلة للثروات والمداخيل أحدى أخطر أوجه الأزمات الاقتصادية، وهذا ما تجلى بوضوح في الانهيار النقدي اللبناني. أكثر من 80 في المئة من أفراد المجتمع انحدروا إلى ما دون خط الفقر، ونحو 20 في المئة عاموا على ثروات خيالية. أصحاب “الياقات البيضاء”‏ الذين يقومون بعمل “ذهني” مكتبي تمّ إفقارهم. وأصحاب “الياقات الزرقاء” الذين يقومون بعمل يدوي ميداني أصبحوا أكثر فقراً. فيما انضم أصحاب “الياقات الوردية” الذين يعملون في خدمة الزبائن إلى جيش العاطلين عن العمل.

 

فقدت نصف حجمها

مع ترك “حبل” الازمة للسنة الثالثة على التوالي مرخياً على “غارب” تغييب المعالجات الجدية، “لم تعد الطبقة الوسطى تشكل أكثر من 35 في المئة من المجتمع”، برأي الباحث في الدولية للمعلومات محمد شمس الدين. و”هي قد انحسرت من نحو 70 في المئة قبل 2019 مع استمرار الإنهيار النقدي وتراجع القيمة الشرائية للرواتب والأجور”. هذه الطبقة كانت مكونة أساساً من فئات الموظفين في القطاعين العام والخاص، وصغار التجار، وأصحاب المهن الحرة، ممن يتقاضون دخلاً يبدأ بمليوني ليرة، أي 1300 دولار وقتها، ويصل إلى حدود 6 ملايين ليرة، أي 4 آلاف دولار. ومن مميزات هذا الكم من المداخيل أنه لا يكفي فقط لتأمين الحاجات الأساسية والترفيهية، إنما يسمح أيضا بالادخار. وعلى الرغم من تراجع مداخيل هذه الطبقة إلى رقم يتراوح بين 70 و200 دولار أميركي إلا أن “جزءاً منها ما زال يستفيد إما من تحويلات من الخارج، وإما من مداخيل إضافية نتيجة مدخرات وتوظيفات مالية”، بحسب شمس الدين. “الأمر الذي حافظ على وجودها نسبياً، ولو أنها أصبحت بالمقارنة مع الماضي تنتسب إلى الطبقة الفقيرة أكثر منها المتوسطة”.

 

نصف الراتب للمواصلات

أساتذة الجامعة اللبنانية يشكلون المثال الصارخ على الإنعكاس المباشر للأزمة على أصحاب “الياقات البيضاء”، وبشكل غير مباشر على المجتمع. “عمود الوسط” الذي كان يشكل الرافعة الحقيقية للطبقة الوسطى تخلخل بقوة، إذ “أصبحت كلفة الوصول من مكان إقامتي إلى جامعتي تشكل 50 في المئة من الراتب الذي أتقاضاه”، يقول مدير كلية الفنون الجميلة والعمارة – الفرع الرابع في دير القمر الدكتور كمال أبو حمدان، و”الباقي لا يكفي لتأمين أبسط متطلبات الحياة من أكل وشرب”. وعلى عكس قسم من موظفي القطاع العام، لا يستفيد أساتذة الجامعة اللبنانية من بعض العطاءات والحوافز التي تعطى آخر العام، واتكالهم الأساسي هو على هذا الراتب. ومع تدني قيمته الشرائية إلى ما بين 80 و85 في المئة، فان “الاستمرار أصبح صعباً، إن لم يكن مستحيلاً”، وهو ما يدفع، بحسب أبو حمدان، “الكثير من زملائنا إلى ترك “الجامعة”، والبحث عن فرص عمل في الخارج تؤمن حياة لائقة. مع ما يعني ذلك من فقدان عنصر أساسي في بناء المجتمع وأجياله المستقبلية”.

 

العمل باللحم الحيمن بين الاساتذة الجامعيين، يبرز المتعاقدون بوصفهم الأكثر تضرراً من الأزمة. وبعيداً عن الدخول في التركيبة الادارية “العجيبة” للجامعة للبنانية، فان هذه الفئة “تعمل باللحم الحي، وتدفع أكثر مما تتقاضى للقيام بواجبها”، بحسب الدكتور في كلية العلوم الفرع الأول، علي فارس. فسقف ساعات الاستاذ المتعاقد هو 350 ساعة، بمعدل 80 ألف ليرة للساعة الوحدة، أي 24 مليون ليرة سنوياً. والمستحقات لا تدفع شهرياً، إنما بعد عام أو عامين كونها تخضع لما يعرف بـ”عقد المصالحة”، الذي يحرم الاستاذ من كل التقديمات المستحقة للموظفين”. وللقارئ أن يتخيل قيمة المبلغ وقدرته الشرائية بعد عامين من اليوم.

الهجرة الحل الوحيدالأطباء، كل الأطباء ليسوا أفضل حالاً، صحيح أن متوسط التعرفة ارتفع من حدود 50 ألف ليرة إلى 200 ألف، لكن قيمتها الفعلية انخفضت من 33.3 دولاراً إلى 6 دولارات فقط، و”هي لا تكفي الطبيب لتأمين حياة لائقة”، بحسب مدير عام مستشفى بشامون التخصصي الدكتور معن الهنيدي. وفي أغلب الأحيان يشتكي المريض من عدم قدرته على تحمل الكلفة فيسامحه الطبيب بها أو بالقسم الأكبر منها. أمام هذا الواقع أصبح “أقصى طموح الطبيب هو الهجرة”، من وجهة نظر الهنيدي. و”لا سيما مع بقاء تعرفة العمليات الجراحية من قبل الجهات الضامنة ووزارة الصحة على حاله، وتعمدها تحويل المستحقات السابقة بـ”القطارة”. أما الانعكاس فسيكون، بحسب الهنيدي، “هجرة ما لا يقل عن 30 في المئة من الأطباء في النصف الاول من العام الحالي، إذا استمرت الأمور على هذا المنوال”.

 

ذوبان الطبقة الوسطى يمثل النهايةبنيان الطبقة الوسطى الذي كان يتشكل بأكثر من نصفه في الفترة الماضية من الأجراء، يتعرض اليوم للانهيار”، بحسب مدير “مؤسسة البحوث والاستشارات”، الخبير الاقتصادي الدكتور كمال حمدان، وهذا ما يمكن الاستدلال عليه من واقع أركان هذه الطبقة من أساتذة التعليم الجامعي والثانوي وقسم من الأطباء والمهندسين والمحامين… وغيرهم من أصحاب المهن الحرة، من دون أن ننسى موظفي القطاع العام والمصالح المستقلة الذين كانوا يتقاضون 16 شهراً، مع ما يرافق هذا الدخل من منافع وتقديمات. وبرأي حمدان “عندما يكون 60 في المئة من المجتمع أجراء، 90 في المئة منهم يتقاضون أجورهم بالليرة اللبنانية، ويكون مؤشر الاسعار منذ العام 2018 إلى 2021 قد ارتفع وسطياً بأكثر من 400 في المئة، وبنسبة 650 في المئة اذا ما احتسبناه في نهايات هذه الفترة، أي من كانون الأول 2018 إلى كانون الأول 2021، فمن المؤكد أن المخاطر التي تحدق بهذه الطبقة كبيرة”.

باستثناء بعض الشرائح من هذه الطبقة التي تملك مصدراً آخر للدخل بالعملة الأجنبية، أو تلك التي لديها أفراد في الخارج يحولون لها موارد بالدولار، فان الأزمة أذابت القسم الأكبر من هذه الطبقة. وما يزيد المخاطر على هذه الطبقة خاصة، ومختلف شرائح المجتمع عامة، هو أن المنحى الصاعد لتدهور الليرة، وبالتالي لارتفاع الاسعار وانهيار القدرة الشرائية أكثر لا يزال يأخذ مداه”، من وجهة نظر حمدان. و”لم يصل بعد إلى سقفٍ ممكن أن يقف عنده”.

مع اشتداد حماوة الأزمة فان الطبقة الوسطى معرضة للذوبان أسرع وبنسب أكبر. وكل من يملك من أركان هذه الطبقة قدرات شخصية وكفاءات علمية وخبرات مهنية سيفكر حتماً بترك البلد والعمل في الخارج”، يقول حمدان. ومع خسارة أصحاب الاختصاص والكفوئين فان شكل البلد سيتغير ديموغرافياً واقتصادياً إذا ما استمر النزيف في الفئات المتوسطة. أمّا سياسياً، فستكون خسارة الطبقة الوسطى بمثابة الزلزال الذي يكرس أحادية الزعامات الطائفية والانكشارية على جمهور ضعيف ومحتاج يخضعونه للتسول كل يوم أكثر من الذي سبقه. وهذا ما يتناغم برأي حمدان “مع شعارات التقسيم”، وقد سبق وحذّرنا منها منذ الأيام الأولى للانتفاضة. ذلك أن عجز الأخيرة عن إحداث الخرق المطلوب في النظام الطائفي سيقوي الزعامات السياسية والطائفية، وستعود للامساك وتحريك شوارعها بتوزيع الفتات وباستغلال فاضح للفقر والعوز والانهيار. والارجح أنه مع ذوبان الطبقة الوسطى فان البلد و”الشركة السداسية” تتجه أكثر نحو عودة كل مكون إلى منطقته ليمارس القمع على جماعته بطريقته.

 

فارس

الفقر متعدد الابعاد يطرق الابواب… ولا إصلاحات

مع أفول نجم الطبقة الوسطى التي صنعت للبنان أمجاده في مختلف الميادين التعليمية والصحية والخدماتية، فان “قيامة” البلد تصبح أصعب. فانحدار هذه الطبقة إلى ما دون خط الفقر الأحمر يترافق مع ارتفاع نسب “الفقر المدقع المتعدد الأبعاد” إلى 34 في المئة، بحسب تقرير لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا “الإسكوا” الصادر في أيلول الفائت تحت عنوان “الفقر المتعدد الأبعاد في لبنان: واقع أليم وآفاق مبهَمة”. واذا كان الفقر قد طال في السنوات الثلاث الأولى من الأزمة أصحاب الياقات البيضاء، فان انحدار العمال من أصحاب الياقات الزرقاء إلى الفقر المتعدد الابعاد، أي حالة الحرمان في بعدين أو أكثر من أبعاد الفقر، لا يقل خطورة. واذا أضيفت إلى هذين العاملين البطالة الهائلة التي تفشت في أوساط عمال قطاع الخدمات نتيجة اقفال المؤسسات وارتفاع التكلفة وعدم الاستقرار الأمني وغياب السياح… فان البلد يتجه في المقبل من الشهور إلى ما يشبه الشلل التام.

الانهيار الشامل يترافق مع انكار رسمي قلّ مثيله، ولعلّ موازنة 2021 التي وضعت أيام حكومة الرئيس حسان دياب خير دليل على ذلك. فهي لم تقف عند احتساب سعر الصرف على أساس 1500 ليرة للدولار فحسب، بعدما كان سعره قد وصل إلى 9000 في السوق السوداء، إنما لم تتضمن الاصلاحات المرجوة، ولا سيما الضرائبية منها. ومع الحديث عن قرب وضع موازنة 2022 على طاولة البحث فان الآمال معلقة على أن تأتي هذه الموازنة قريبة من الواقع وتتضمن الاصلاحات المطلوبة اقتصادياً، مالياً ونقدياً، للبدء بمرحلة التعافي والخروج من الأزمة، ولو أن هذا الأمل هو ضرب من ضروب الخيال غير الواقعي.