قد يكون من السهل على خبراء المال والإقتصاد والنقد (وتكاثرهم هذه الأيام على شاشات التلفزة، يُذكّر ببعض الخبراء الدستوريين الذين يتوالدون أيضاً في أوقات الأزمات السياسية والدستورية والميثاقية، ويحافظون على جهوزيتهم لإصدار المواقف المعلّبة التي تفيد هذا الطرف أو ذاك، إنّما تطعن الدستور في الصميم)؛ قد يكون من السهل على هؤلاء، الإستمرار في إطلاق الرؤى والخطط الكفيلة بوقف الإنهيار المتتالي في كلّ القطاعات، إلا أنّ الأمر ليس بالسهولة ذاتها عند المواطن الذي يئنّ تحت الأزمات المتلاحقة التي دمرّت كلّ مرتكزات المجتمع وعناصر قوته.
لم يعد ثمّة طبقة وسطى في لبنان، تلك الشريحة التي تشكّل صمّام الأمان في أي مجتمع إقتصادي من خلال إمتلاكها خصائص المعرفة والصمود والعمل. إستهداف هذه الطبقة يعود لعقودٍ خلت، إذ لطالما لفظها النظام الإقتصادي اللبناني الذي تركّزت كلّ حركته ونشاطه على قطاعات المصارف والخدمات والسياحة.
وجاءت القوانين التي تحمي السريّة المصرفية (ويبدو أنّ زحمة القوانين والتشريعات الفولكلورية، التي يصرّ بعض الكتل على استيلادها، ستؤدّي إلى تعريتها وتفريغها من مضمونها) لتعزّز هذه الخيارات الإقتصادية، بالتزامن مع ظروف إقليمية تراجيدية كانت بمثابة تحوّلات كبرى، مثل إحتلال فلسطين واستخراج النفط العربي والحاجة إلى مصافي النفط اللبنانية، ممّا حوّل لبنان منصّة متقدّمة في هذه القطاعات.
إلا أنّه بتوازي ذاك النجاح الظاهري، كمنت حالات الفقر وأحزمة البؤس التي زنّرت العاصمة بيروت (ولا تزال)، فضلاً عن حالات الإهمال المتمادي في الأرياف والأطراف. ولقد تأجّج هذا التفاوت الإجتماعي والطبقي من خلال عدم الإكتراث لقطاعي الزراعة والصناعة، وإدارة الظهر لهما، ونزع ميزاتهما التفاضلية تحت ذرائع واهية تعكس الذهنية المركنتيلية المتحكّمة بالسلطة والمحرّكة لأدواتها.
كما ساهم التمركز الشديد والإسقاط المتتالي لمشاريع اللامركزية الإدارية في تكريس هذه السياسات المشوّهة والملتوية، فغاب الإنماء المتوازن، وأصبحت المشاريع الحكومية رهينة إرادة القوى الفاعلة، وليست وليدة الخطط التنموية العلمية التي ترمي لمكافحة الفقر ومحو الأمّية وإطلاق عجلة النمو والنهوض.
مهما يكن من أمر، فإنّ الهدف من المرور على هذه العناوين، ليس استعادة النظريات الفكرية سواء الماركسية منها أم الليبرالية؛ إنّما التذكير بما سبق أن عاشه لبنان قبل التدهور الأخير، الذي كانت تلك السياسات من مسبّباته الرئيسية، ونتيجة طبيعية لغياب آليات المحاسبة والمساءلة التي تعطّلت بفِعل التشويه المنظّم لمفاهيم الديموقراطية التوافقية اللبنانية، وسعي البعض لإختطافها وإلحاقها بمصالحه وأهدافه الفئوية.
إنّ الأعطال البنيوية في النظام الإقتصادي اللبناني التي كانت سبباً لمعاناة شرائح إجتماعية واسعة في لبنان، ولانهيار الطبقة الوسطى كما سبقت الاشارة، تعتبر مجرّد ظواهر بسيطة قياساً إلى الإنهيارات المتلاحقة التي تشهدها البلاد في هذه الحقبة، كما في المرحلة المقبلة التي ستكون أكثر صعوبة وقسوة.
حبّذا لو تتمكّن الحكومة المنتظرة، التي تُحاط عملية تأليفها بالكتمان والسريّة، تظلّلها بيانات النفي اليومية التي تصدرها غرف القصر الجمهوري في بعبدا كمن يتنصّل من شيء لم يحصل؛ بأن توقف هذا المسار الانحداري. عدا النوايا الطيّبة عند البعض، ليس ثمّة تفاؤل كبير يُتوقّع، لا سيّما أنّ النوايا السيئة للبعض الآخر لا تزال تفعل فِعلها في كلّ مفاصل الدولة.
ثمّة من يملك مشاريع أكبر من عمره السياسي، وأعمق من فكره السطحي، وأوسع من صدره الضيّق، فهل يُسقط البلاد برمّتها لتحقيق تلك الأحلام التي لا تزال تجد، للأسف، من يصدّقها، ولو أنّها كانت مجرّد أحلام تدميرية لتلك المساحة المشتركة بين اللبنانيين؟
“يا خبر النهار ده بفلوس، بكرا ببلاش”، ألم يكن ذلك المثل المفضّل عند الرئيس فؤاد السنيورة؟