يوماً بعد يوم، يتبيّن أن المسؤولين المعنيين الذين صنعوا بأيديهم الأزمة الإقتصادية والإجتماعية الأسوأ في العالم، والتي يعانيها لبنان واللبنانيون، يُحاولون ويعملون على إدارتها على نحو أسوأ من التسبُّب بها. وهذا يعني أن الأشخاص المباشرين وغير المباشرين عن هذه الكارثة، يُحاولون أن يكسبوا الوقت، وهم بذلك يحفرون كل يوم أكثر فأكثر في هذا النفق الغامض.
أولوية المسؤولين الذين تسبّبوا بالأزمة اليوم هي التهرّب من مسؤولياتهم ورميها على غيرهم، خصوصاً على القطاعات الإنتاجية والمستثمرين، وحتى على بعض المسؤولين الذين رُفع عنهم الغطاء السياسي، وقرروا إطاحتهم لوضع اليد على كل مؤسسات الدولة.
لقد أصبح واضحاً أنهم حرفوا الأضواء عنهم، ورموا كرة النار على القطاع المصرفي أولاً.
لا شك في أنّ هذا القطاع عليه مسؤولية، ويجب أن يُساهم في الخسائر ولا سيما في تعويض المودعين. لكنّ إطاحته وإفلاسه ليس هو الحل، وهو أمر اذا حصل، يستفيد منه السياسيون فقط. ومن ثم اتجهوا إلى ضرب القطاع التجاري، فالقطاع الصناعي، والقطاع الزراعي، والقطاع الصحي – الإستشفائي، وحتى القطاع الخدماتي، لضرب الثقة ومحاولة رفع المسؤولية عنهم، ورميها على القطاع الخاص، كأنه هو المسؤول المباشر.
وقد شاهدنا جميعاً مغامرات «دون كيشوتية» وهميّة، من أجل إلهاء الشعب، وكسب الوقت، حيث كانت تصل كاميرات التلفزيون إلى مكان المهمة قبل وصول الأجهزة الأمنية. وكل هذه الإتهامات والهجومات لن تعيد سنتاً واحداً للبنانيين، لكنها أبرزت وجوهاً جديدة، وأبعدت بعض الإلتزامات المالية.
فإدارة الأزمة في لبنان تتمّ عبر الترويج لمشاريع وهمية عشوائية من وقت لآخر، من دون تنفيذ أي مشروع منها. فقد بدأ الحديث عن مشروع قانون «الكابيتال كونترول» ( Capital Control) منذ أكثر من 18 شهراً، ثم توقف هذا المشروع لأسباب غامضة. ومن ثم تسلّطت الأضواء عليه، في اللجان النيابية مجدداً، وحتى اليوم لا جدية في إقراره وتنفيذه.
في الوقت عينه، إنتقلت الأضواء إلى التدقيق الجنائي، ولُزّم المشروع إلى شركة «مارسال والفاريس» (Alvarez & Marsal)، ثم اتفق المسؤولون ذاتهم في ما بينهم وهرّبوا الشركة المذكورة ووُضع المشروع في الأدراج. ثم بعد أشهرٍ عدة، نجد أن الذين طعنوا بهذا المشروع أعادوا إحياءه لأغراض سياسية وضغوطات داخلية. وهنا أيضاً لم تُنفّذ أي خطوة حقيقية وأي مردود واقعي، ولم نسترجع سنتاً واحداً، وتبين ان كل ما يجري يهدف فقط الى كسب الوقت ورمي الإتهامات الوهمية.
ومن ثم بدأ الحديث عن مشروع الموازنة العامة. وبدأ التجاذب حوله والأخذ والرد كالعادة، علماً أن الجميع يعلم تماماً أنه لا يُمكن إقرار أي موازنة عامة في ظل غياب حكومة فعّالة تتمتّع بثقة البرلمان، وليس حكومة تصريف أعمال مستقيلة عن مهمتها وحتى عن إستقالتها. وهنا أيضاً طُويت الصفحة من دون اتخاذ أي قرار أو أي خطة أو أي إصلاح موعود من قبل صندوق النقد الدولي والبلدان المانحة.
وأخيراً، بدأ التفاوض أو بالأحرى المتاجرة في موضوع رفع الدعم عن السلع الأساسية للمواطنين، وهنا أيضاً بدأ الحديث غير البنّاء بين السياسيين عن رفع الدعم أو متابعته، علماً أن الجميع يعلم تماماً أن الدولة اللبنانية تطبع الليرة اللبنانية وليس العملات الأجنبية، والموجودات بالعملات الصعبة في «المركزي» وصلت إلى النهاية، وحتى انه بدأ يتم استعمال الإحتياطي وهو ملك الشعب، والأزمة الإقتصادية التاريخية تزداد يوماً بعد يوم.
وهنا أيضاً فوجئنا ببدعة جديدة (خلّاقة وإبداعية) من قبل السياسيين، وهي البطاقة التمويلية وهي في الحقيقة «بطاقة تمويهية»، وهنا أيضاً يهدفون الى كسب الوقت، ورفع المسؤولية عنهم. والكارثة الأكبر أن الذين تسبّبوا بوقوع الخسائر وبهذه الأزمة الإجتماعية التاريخية، هم أنفسهم الذين يُريدون تولي توزيع البطاقات، لأغراض انتخابية وحزبية وحتى مذهبية وطائفية.
في الخلاصة، نُشدد ونقول إن الذين تسبّبوا بهذه الأزمة الكارثية يُديرونها بطريقة أسوأ من صنعها، وأصبح واضحاً أن مع هؤلاء، التدهور سيتوالى، وكل القرارات العشوائية لن تُبصر النور، ولن تُحقق أي نتيجة.
إن الحل الوحيد يتمحور حول ثلاثة عناصر هي:
– سلطة تنفيذية تضع خطة اقتصادية، إنقاذية وتبدأ بتنفيذها في اليوم الأول لتولي مهماتها، مع أولوية واحدة هي استرجاع الثقة واستقطاب الأموال من الخارج.
– التفاوض مع الدائنين الداخليين وهم المودعون والمصارف اللبنانية، ومع الدائنين الخارجيين أي حاملي سندات اليوروبوندز.
– جذب العملات الصعبة من جديد من الخارج، عبر استرجاع الدورة الإقتصادية والإستثمارات الخارجية، والإستثمارات الدولية، في المشاريع مباشرة، ولا سيما التفاوض مع صندوق النقد الدولي والبدء بمشروع مشترك لتنفيذ الإصلاحات المرجوة.
فمن دون تحقيق هذه العناصر الأساسية، سنبقى كمن يطحن الحجر، ويبحث عن القمح من دون جدوى.