IMLebanon

عندما تسقط البقرة.. ويكثر السّلاخون!

 

 

وكأنَّ شيئاً لم يحدث… هكذا في اختصار تتعامل الطبقة الحاكمة في لبنان مع الوضع العام الذي يواصل السقوط نحو جحيم الكارثة الاقتصادية -الاجتماعية، التي باتت نيرانها تكوي اللبنانيين في كل مفاصل حياتهم – مرتباتهم، سلعهم الاساسية، وصحّتهم.

 

هكذا تأتي المناكفات السياسية القديمة والمتجدّدة، لتُبقي لبنان في الدائرة المفرغة التي يدور فيها، وهو يواصل السقوط ، وكأنّ شيئاً لم يحدث: لا ثورة شعبية تفجّرت، ولا حكومة حريرية استقالت وتطلّب إيجاد بديل لها، ولا أسابيع ضائعة، ولا انهيار اقتصادياً يقترب، ولا سندات «يوروبوندز» بات تسديدها أو الامتناع عن دفعها سيفاً مصلتاً على البلاد والعباد! لكأنّ الكل بات مسلّماً بحقيقة أنّ النظام السياسي الذي قام عليه لبنان منذ مئة عام بات منتهي الصلاحية، طالما أنّ «البقرة الحلوب» قد جفّ ضرعاها، فلم تعد قادرة على التوفير، للمتحكمين، ما يكفي لتضخيم ثرواتهم.

 

هكذا، يمكن افتراض، وفق المثل الشعبي القائل، إنّه «حين تسقط البقرة يكثر سلاّخوها»، أنّ الطبقة الحاكمة باتت مجتمعة على هدف واحد، وهو تدمير ما تبقّى من فرص ضيّقة للإنقاذ، تمهيداً لإعادة تشكيل النظام اللبناني على نحو مغاير تماماً لما قام عليه منذ ولادة دولة لبنان الكبير، بكافة مفاصله التاريخية، منذ عهد الانتداب، مروراً بالاستقلال وما بعد الطائف، وصولا ًإلى التسويات الهشة التي شهدها في السنوات الأخيرة الماضية، والتي باتت في حكم المنتهية منذ ليل 17 تشرين الأول.

 

المناخ السياسي العام يشي بمعادلة بسيطة وخطيرة في آنٍ معاً: طالما أنّ «الدولة» اللبنانية وقطاعها العام لم يعد صالحاً كأداةٍ لكسب الولاء السياسي، فالحل الوحيد يكمن في تدمير النظام القائم لمصلحة نظام جديد، من شأنه أن يسمح بضخ الهرمونات إلى جسد تلك «البقرة الحلوب»، أو على الأقل لا يبدّد المكاسب التي تحققت نهباً، منذ فترة الحرب الأهلية مروراً بزمن ما بعد «إتفاق الطائف».

 

ضمن هذه العقلية يمكن فهم المناكفات المتجدّدة، والتي تهدف إلى تكبيل حكومة حسان دياب، وهو سلوك مشترك بين شركاء الأمس، الذين انتقلوا إلى مقاعد «المعارضة»، وبين شركاء اليوم الذين دفعوا في اتجاه تشكيل الحكومة الحالية، وها هم اليوم على قاب قوسين أو أدنى من التخلّي عن خيارهم… لمصلحة المجهول!

 

ينطلق هذا السلوك من واقع اقتصادي بحت، وهو أن لا فرصة أمام حكومة حسان دياب لإثبات القدرة على تجنّب الانهيار إلّا بخيارين محدودين، ومستحيلين في آن واحد..

 

يتمثل الخيار الأول في الاستجابة الجدّية لمطالب الشارع، بمحاسبة الفاسدين واستعادة المال المنهوب منذ ثلاثين عاماً، وفي ذلك محاذير تفجيرية. فثمة في البلد من هو مستعد لإشعال الحرب الأهلية مجدّداً في حال الاقتراب من المكاسب المالية التي حققها بعرق اللبنانيين ودمهم.

 

اما الخيار الثاني، فهو المضي قدماً في وصفات صندوق النقد الدولي، بكل ما فيها من التزامات «إصلاحية».

 

هكذا تقف النخبة السياسية في لبنان عند مفترق طرق. الصيغة السياسية ـ واستتباعاً لها الصيغة الاقتصادية ـ التي تَكرّس فيها نموذج النفعية المتبادلة بين القطاع المصرفي والسلطة السياسية، انتهت بالفعل، واستهلكت معها كل أجهزة التنفس الاصطناعي التي ابدع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة في استخدامها، ضمن إجراءات يصطلح الاقتصاديون على تسميتها «خطة بونزي»، القائمة على أخذ أموال جديدة من مودعين جدد لمواصلة سداد الديون القديمة.

 

شاء القدر أن تتزامن مئوية لبنان الكبير مع انفجار «الفقاعة» المالية، حين نفد ما تبقّى من دولارات في اقتصاد خُطط له أن يكون مدولراً، فبات على عتبة الإعلان عن افلاسه، حيث لم يعد هناك مزيد من الدولارات لتسديد الديون، ولا مزيد من الدولارات للاستيراد، ولا مزيد من الدولارات لدفع ودائع الناس.

 

ماذا يعني الإفلاس؟

ببساطة، هو إعلان لانهيار النظام السياسي بضرب ركيزته الأساسية، أي القطاع المصرفي، الذي بات الأكثر عرضة للانهيار بسبب الديون السيادية للبلاد، بعدما باتت 70 في المئة من أصوله أدوات دين سيادية. وبعبارة أخرى، فإنّ التخلّف عن سداد هذا الدين سيؤدي إلى تآكل رأسمال معظم المصارف.

 

واذا كان طريق الإنقاذ قد بات مسدوداً من بوابة الهندسات المالية وإعادة هيكلة الدين السيادي أو ما عدا ذلك من إجراءات مالية، فإنّ البوابة الأخرى، التي طالما شكّلت في لبنان مخرجاً موقتاً للأزمات المالية، والمقصود بها بوابة الدعم الخارجي، فهي مُحكَمة الإقفال، ومفتاحها الوحيد يتطلّب تسديد فواتير سياسية خيالية، في بلد يقع على مفترق طرق الأجندات الإقليمية والدولية، ومشرّع على كل العواصف الآتية من الشرق والغرب.

 

ضمن هذه العوامل، يسير لبنان نحو الانهيار الاقتصادي، الذي سيولّد الانهيار المحتوم للنظام السياسي، ويترك البلاد تسلك طريق السقوط في مجهول مفتوح السيناريوهات، التي قد لا يشبه فيها لبنان الآتي، ما كان عليه لبنان اليوم او لبنان الأمس.

 

لعلّ هذا ما يفسّر إعادة احياء بعض المشاريع القديمة، وأخطرها على الإطلاق مشروع الفدرالية الذي يتمّ الترويج له تحت عنوان «اللامركزية الإدارية والمالية» وفق صيغة موسّعة، تجعل منها اقرب إلى الفدرالية المقنّعة. ويبدو أنّ ثمة من يريد تكريس غياب السيناريوهات البديلة التي من شأنها المحافظة على وحدة لبنان، وتفتح نافذة، ولو ضيّقة لإنقاذ ما أُمكن إنقاذه. ومن هنا يمكن فهم السلوك السياسي الذي بات من الممكن وضعه في سياق يتجاوز «الصبيانية» التقليدية في السياسة اللبنانية، لتصبح معه الشكوك في تقاطعه مع أجندات خارجية تريد أن تجعل لبنان يسلك طريقه، إما إلى الثقب الأسود المجهول، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، أو إلى الغرق في بحر الغاز الذي يتسابق الجميع عليه لإنكار المسؤولية عمّا اقترفت يداه بحق البلد وشعبه.