جميع الدول تستشير خبراء الاقتصاد. هذا ليس قديما بل تطورت الحاجة لهذه الخبرات مع تزايد المشكلات والأزمات الاقتصادية. الخبرات مهمة في زمن الكورونا لما ينتج عنها من بطالة وركود وكساد. حتى في الولايات المتحدة، استعمال الخبرات الاقتصادية حديث نسبيا اذ لم تكن تؤخذ أراؤهم بالجدية المطلوبة. كان الاعتقاد السائد أن علم الاقتصاد غامض ومبهم وبالتالي ليس هنالك جدوى من الاستماع الى الاقتصاديين بل مضيعة للوقت بالنسبة للسياسيين. طبعا العلم تطور والتقنيات جربت وبسطت وأصبحت في متناول الجميع. لم تصبح الاستشارات الاقتصادية مطلوبة الا بعد ان نجح الاقتصاديون في اعطاء الأفكار العملية لتحقيق النمو وتحسين الأوضاع المعيشية. في البيت الأبيض اليوم مجموعة خبراء اقتصاد يأتون ويذهبون مع الرئيس لكنهم يوجهون السياسات الاقتصادية العامة للولايات المتحدة تحت اشراف وادارة الرئيس.
ما يميز أي اقتصاد في العالم هو نموه وتوزع الثروة بين القطاعات والناس كما تطور الريف والخدمات الاجتماعية والانسانية. تغيّر علم الاقتصاد كثيرا بين طبيعة الوسائل التي يمكن أن تطور أي مجتمع. تغير العلم بين النظريات الحرة والشيوعية مرورا بالاشتراكية والليبيرالية على أنواعها. الأنظمة الاقتصادية مهمة لكنها ليست أهم من تصرفات الانسان في حياته الخاصة كما في المجتمع. المطلوب التصرف بأخلاقية كما قال العالم الفيزيائي «نيوتن» حيث تمكن من قياس تحركات المواد وعجز عن قياس جنون البشر كما قال. اختيار الأنظمة الاقتصادية كما السياسات هي من أصعب الأمور التي يختلف عليها المواطنون، ونعلم في لبنان كم هي مهمة الأمور التي تدفع الناس الى الشارع. الكورونا تلهي الناس اليوم في الصحة، لكن المطالب الشعبية حية وتنتظر الفرصة المناسبة لتعود الى العلن. المهم أن يبقى الصراع في الأطر الديموقراطية ولا يتحول الى العنف.
بين سنتي 1969 و2008، لعب خبراء الاقتصاد دورا كبيرا دوليا في تحديد السياسات الضرائبية الفضلى وسياسات الانفاق الرشيدة كما في تحرير القطاعات الاقتصادية من قبضة القطاع العام وبالتالي وضعت أسس العولمة. فشل القطاع العام في ادارة العديد من القطاعات التي تدخل في صلب حياة المواطن ورفاهيته من اتصالات وكهرباء ومياه ونقل. كان اللجوء الى القطاع الخاص طبيعيا لكنه لم ينجح في العديد من الأحيان في استثمار هذه القطاعات بسبب القوانين المهترئة كما بسبب الجشع. لذا أنتج بعض هذا التغيير احتكارات وسلب لحقوق المواطن العادي عبر نوعية وسعر الخدمة. بعد موجة الخصخصة، رأينا رجوع الى اعطاء دور أكبر للقطاع العام في ادارة شؤون الناس. الا أن القطاع العام فشل مجددا، وها نحن نعود اليوم الى ما يعرف بالشراكة بين القطاعين العام والخاص PPP الذي يرقى قبولا في الأسواق.
في أيلول 1985 قام القائد الصيني «زاو زيانغ» بدعوة 8 خبراء اقتصاديين غربيين كبار واقامتهم في باخرة سياحية لأسبوع في نهر «يانكتزي» للتباحث في كيفية تطوير الاقتصاد وتحقيق النمو. شكلت هذه الدعوة السخية بداية مهمة لاهتمام الصين بالنظريات الاقتصادية السوقية، فأدخلتها بذكاء ونجاح الى قلب الدولة. بالرغم من شيوعية السياسة في الصين، بدأت الدولة في اعتماد النظام الحر في الاقتصاد وحققت المعجزات. هل نجح اقتصاد السوق في كل شيء؟ نجح في تحقيق النمو القوي لكنه فشل في تحقيق العدالة الاجتماعية. تطبيق «ثورة السوق» في الصين كان ثورة ضمن الثروة لكنه وسّع فجوات الدخل والغنى بين طبقات الشعب والمناطق. اقتصاد السوق ينتج نموا لكن للأسف في نفس الوقت يوسع الفجوة بين المواطنين ليس فقط في الثروة انما أيضا في الدخل.
الحقيقة أن الاقتصاديين عموما اهتموا أكثر بالنمو من التوزيع العادل، فكانت النتائج الاجتماعية سلبية. ايجابيا أنتج النمو القوي ارتفاعا في المؤشرات الصحية والتعليمية والغذائية فكان النجاح الواضح في رفع العمر المرتقب بسرعة الى الثمانينات من الأربعينات. ما انتشار كتب الاقتصادي «بيكيتي» عن الرأسمالية الا دليل على وعي المجتمع الدولي لاهمال الفقراء وضرورة التصحيح لتأمين العدالة والاستقرار. منحت جائزة نوبل لسنة 2019 الى 3 اقتصاديين عملوا على معالجة موضوع الفقر أي الفرنسية «ديفلو» والهندي «بانرجي» والأميركي «كرايمر» تنويها لسنوات طويلة من الأبحاث. تطور علم الاحصائيات وتوافر الأرقام الدورية سهلا على الاقتصاديين القيام بأعمالهم. نعلم جميعا أن القضاء على الفجوة ومحاربة الفقر يتطلبان عزيمة كبيرة وتعاون دولي، لكن في نفس الوقت المطلوب ايجاد الموارد المالية الكافية للنجاح وهذا ما هو متعثر اليوم.
نجح علم الاقتصاد في تحديد السياسات التي تحقق النمو. بين سنتي 1929 و1932، أيام الأزمة الكبيرة سقط الدخل الوطني في الولايات المتحدة 50% مع ما يحمل من أوجاع كبيرة. لم تتعدل السياسات فقط خلال الأزمات، بل غيرت دور القطاع العام في الاقتصاد من متفرج الى متدخل. تدخل القطاع العام لاقرار القوانين المشجعة للمنافسة منعا للاحتكار كما تدخل في قطاعات التعليم والصحة والبنية التحتية انفاقا وتشريعا للتأكد من النوعية والسعر. كانت هذه مناسبات كبيرة للاقتصاديين كي يلعبوا الدور المطلوب في الاستشارات وفي العمل المباشر الوظيفي. دخل ألوف الاقتصاديين الى القطاعات العامة في أميركا والغرب وبقية العالم. الحاجة اليهم والى علمهم أصبح واضحا ومعترف به عالميا.
معظم الخلاف في أهداف السياسات الاقتصادية يتعلق بأيهما أسوأ البطالة أم التضخم؟ المهم جدا هو أن يحصل المواطن على عمل يسمح له بالعيش الكريم. لكن التضخم يمكن أن يأكل الآجر وبالتالي يضرب ما جناه المواطن. الخيار صعب والمسؤولون في الدولة يعجزون أحيانا عن اختيار السياسات الفضلى. كان «ميلتون فريدمان» يعتقد أن القضاء على التضخم أهم، اذ أنه يضرب الجميع. أما «كيينز» فاعتقد على العكس أن البطالة أهم ويجب أن تتوجه جهود الحكام نحو الغائها. سيطرت أفكار فريدمان على معظم دول العالم أي مكافحة التضخم فكانت النتيجة شرخا قويا وسوء عدالة خطرة.
خبراء الاقتصاد منقسمون حول السياسات الفضلى، لكن هنالك مؤشرات مشتركة يقتنع بها الجميع أو الأكثرية. مثلا 98% من الاقتصاديين لا يوافقون على تثبيت الأسعار بينها الايجارات والمعاشات. 97% من الاقتصاديين يعتبر أن التعريفات الجمركية مضرة للاقتصاد وللمواطن. 95% يفضل أسعار الصرف الحرة على الثابتة و90% يعارض تحديد حد أدنى للأجر لتأثيره السلبي على البطالة.
تتغير السياسات الاقتصادية مع الأنظمة الحاكمة. ما اعتمدته ادارات كينيدي وجونسون في الولايات المتحدة مثلا مختلف تماما عن ما طبقته ادارات نيكسون وريغان. كانت الدراسات الاقتصادية مثلا وراء الغاء التجنيد الاجباري في سنة 1973 والانتقال الى الجيش الاحترافي الطوعي. قال «فريدمان» وقتها إن التجنيد الاجباري هو اعتداء على الحريات ويسلب الشباب سنوات من عمرهم المنتج وبالتالي يضر بالأشخاص والاقتصاد. بفضل نفوذه في عهد نيكسون استطاع فريدمان المساهمة في الغاء هذه الضريبة.
في الدول العربية عموما ولبنان خصوصا، لم تعط الخبرات الاقتصادية المحلية الفرصة الكافية. حينما استعين بالخبراء، أتوا من الخارج بتكلفة باهظة وغادروا عموما دون أن يؤدوا الوظيفة بالمستوى المطلوب المجدي واللائق. الخبرة الأجنبية ليست دائما أفضل من المحلية، لذا وضع بعض الثقة في الخبراء المحليين يفيد الدول، يوفر على الخزينة ويبقي هذه الثروات البشرية في الدول نفسها للاستفادة منها دوريا في كافة الحاجات والأمور.