أجمعت سلسلة التقارير المحلية والدولية على حجم التدمير في مختلف نواحي الحياة السورية، وقُدّرت الخسائر مبدئياً بـ 270 مليار دولار، خصوصاً إذا تقرّر إعادة إعمار ما جرَفته الحرب والعودة عن المخططات التوجيهية لتغيير طبيعة بعض المناطق وهويتها السكانية، وهو ما سيقدّم الحلول الاقتصادية على السياسية والعسكرية. فكيف السبيل إلى هذه القراءة التي تعني سوريا وأطرافَ الحرب الكبرى المتورّطين فيها؟
على وقعِ مسلسل العقوبات الأميركية الاقتصادية التي أضافتها واشنطن إلى لوائح سابقة، والتي غلبَ عليها الطابع الاقتصادي، وتحديداً عندما طاوَلت القطاعات النفطية في روسيا وأخرى مشابهة على كلّ من طهران وبيونغ يانغ، بدأت مراجع ديبلوماسية تتبادل الدراسات والآراء حول المقاربة الاقتصادية، والنفطية تحديداً، التي يمكن الولوج منها لتسوية العلاقات بين موسكو وواشنطن في ظلّ أجواء توحي بأنّ الولايات المتحدة ترغب في حوار اقتصادي يتقدّم على الملفات السياسية المتصلة بسلسلة الأزمات الدولية التي يتواجهان فيها من جزيرة القرم في أوكرانيا وجورجيا وصولاً إلى سوريا.
وعلى هذه الخلفيات، فُهِمَ النشاط الذي تشهده منطقة الشرق الأوسط ودول الجوار السوري تحديداً حول ما يسمّى إعادة إعمار سوريا بعد الحرب، وتلاحقَت الدراسات والمؤتمرات الخاصة التي تتناول آليّة وطريقة إدارة هذه المرحلة وتقاسُم الأرباح المقدّرة نتيجة هذه الورشة الإعمارية التي قد تمتدّ إلى عقدين ونصف من الزمن على الأقلّ.
ومِن هذه المعادلة بالذات، بدأ الحديث عن احتمال أن تتقدّم المحادثات الاقتصادية على الديبلوماسية بعد فشلِ كلّ الحلول والمخارج العسكرية، لاستحالة أن يتغلّب فريق على آخر، أياً كانت القدرات العسكرية التي جُنّدت لهذا الهدف، وهو ما قد يُسهّل التوصّل إلى الحلول السياسية على أن تليَها الأمنية.
وباعتراف عائدين من واشنطن أنّ «العقل الترامبي» المادّي بدأ يتقدّم على بقية العقول الأخرى، فالرَجل يسعى إلى زيادة نسبة الواردات إلى القطاعات المالية في بلاده لتجاوزِ الأزمات الاقتصادية التي عاشتها منذ العام 2008 ولم تتعافَ منها كلّياً حتى الآن.
وهو ما قاده إلى أن يقدّم زيارته إلى الممكلة العربية السعودية بعد أسابيع قليلة على دخوله إلى البيت الأبيض ونجاحه في استقطاب نحو 380 مليار دولار ستُضخّ في الأشهر المقبلة في شرايين الاقتصاد الأميركي عبر الصناعات العسكرية والتكنولوجية وقطاع الطيران والصناعات الثقيلة، كذلك بالنسبة إلى وضعه الأطرَ الاقتصادية والمالية في علاقاته مع أصدقاء أميركا في العالم تحت شعار بطلان «الخدمات الحمائية الأميركية المجانية لدول العالم الحر»، وهو ما فتحَ نقاشاً قوياً مع عدد من الدول الصناعية الكبرى كألمانيا وبعض دول الشرق الأدنى والخليج العربي والدول التي تَحظى بالرعاية الأميركية من ضمن حلف «الناتو» أو من خلال الاتّفاقات الإقليمية الأخرى التي تحدّد أشكالَ التعاون العسكري والأمني.
ومن هذا المنطق بالذات فهِم إصرار الكونغرس الأميركي بمجلسيه الشيوخ والنواب وبأكثرية غير مسبوقة جَمعت الديموقراطيين المعارضين
والجمهوريين على تعزيز العقوبات الاقتصادية على موسكو والتي تُعتبر الأكثر تشدّداً والأوسع نطاقاً منذ بداية فرضِها عام 2014. ولذلك فقد تناوَل القانون الجديد، ما سمّاه «مشروع السيل الشمالي 2»، وهو المشروع الخاص بنقل الغاز الروسي السائل المخصّص للاستخدام الفوري إلى أوروبا، بعدما أسبغ على سلسلة التدابير التي صَدرت عن الرئيس الأميركي بموجب «أوامره التتنفيذية» التي اتّخذها ومن قبله الرئيس الأسبق باراك أوباما «صفة القانون»، ما يَجعلها أكثرَ صرامةً وغيرَ قابلة للطعن إلّا بقوانين مماثلة.
ولا يخفى على أحد، أنّ هذه العقوبات على موسكو لن تقف عند عتباتها فحسب، فهي بلغت بنتائجها السلبية دوَل الاتّحاد الأوروبي، وهي التي كانت سبباً في تردّي العلاقات الألمانية ـ الأميركية بعدما عبّرت برلين عن رغبتها الاستثمارَ في خط الأنابيب الروسي لتؤمّن حاجتَها منه بأقلّ كلفة عند نقلِه إلى أراضيها.
وإلى هذه الانعكاسات السلبية يتوقع أن تتوسع دائرة تردّدات هذه العقوبات إلى مسرح الأزمات الأخرى وأوّلها سوريا. فهي وإن فُتِح الحوار في شأنها بين موسكو وواشنطن والعواصم المعنية ستتناول أسبابها التي تردّها الإدارة الأميركية إلى السياسات الروسية المعتمدة في سوريا وأوكرانيا وجورجيا، فهذا قد يَجعلها في سلّة واحدة يختلط فيها النزاع الاقتصادي مع العسكري والأمني والديبلوماسي.
وبناءً على ما تَقدّم، يُجمع زوّار موسكو وواشنطن على الإشارة إلى أنّ حواراً من هذا النوع قد يفضي إلى إدارة جديدة للأزمة السورية، كذلك بالنسبة إلى الأزمات المشابهة، لمجرّد أن تلتقي المصالح الاقتصادية بهذا الحجم الكبير.
وهو ما عزّز انهماكَ دولِ الجوار السوري والمنتديات الاقتصادية العالمية بالبرامج الخاصة بإعادة الإعمار التي ستواكب الخريطة الجديدة ومواقعَ النفوذ والقوى في سوريا في مرحلةٍ تبدو إدارتها محصورة بالقطبَين الأميركي والروسي دون غيرهما من الأطراف الإقليميين الذين يجاهدون للسيطرة على مناطق استراتيجية في سوريا تؤهّلهم الحضورَ على طاولة المفاوضات الاقتصادية والإعمارية.
ولكن، وقبلَ بلوغ هذه المرحلة، يبدو واضحاً لدى موسكو وواشنطن أنّهما لن تُشركا أحداً في رسمِ خريطة سوريا الجديدة اقتصادياً وإعمارياً وسياسياً، أيّا كانت مواقعهم، بعدما عبّروا عن ذلك بتقاسُم الأدوار فيها من دون إشراك أيٍّ من الحلفاء الإقليميين، ولا سيّما منهم إيران وتركيا، إلّا بما يُسمح لهم به من بقايا التفاهمات بينهما.
كلّ ذلك يَحصل في وقتٍ تترقّب المراجع المعنية ما يجري العمل في شأنه إزاء الدستور السوري الجديد الذي انتقلَ به التفاهم الثنائي الأميركي ـ الروسي إلى الأمم المتّحدة بإشرافهما لتكتملَ صورة المشهد المقبل الذي تتقدّم فيه المصالح الاقتصادية بمئات المليارات من الدولارات على ما عداها من الخيارات الأخرى. فتأتي الحلول حول مستقبل «سوريا الجديدة» لتترجمها.
وإلى تلك المرحلة يراقب الجميع سياسة التدمير في سوريا التي ترفع من فاتورة الإعمار، وهو ما بات ثابتاً في القول إنّ ما يجري في بعض مدنِها هدفُه «التدمير لا التحرير».