أمّا وأنّ لبنان قد بدأ يدخل في مرحلة تخفيف «التعبئة العامة»، تزامناً مع دخوله مرحلة «الخطة الاقتصادية»، وفي القلب منها البرنامج المُرتقب مع صندوق النقد الدولي، ثمة مرحلة مفصلية تلوح في الأفق، وفيها إعادة خلط للأوراق الداخلية، على أمل التقاط الفرصة الأخيرة، وإخراج البلاد من الأزمة الكارثية التي تمرّ بها.
بصرف النظر عن المواقف الثابتة والمتغيّرة من حكومة حسان دياب، والنموذجي فيها استدارة ملفتة للانتباه في شكلها وتوقيتها لزعيم «الحزب التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط، ومقاطعة «تيار المستقبل» للقاء بعبدا المخصّص للتشاور في الخطة الاقتصادية، تبدو الحكومة اللبنانية في مرحلة استعادة زمام المبادرة.
ليس غريباً التوافق الحاصل، أو بالتوصيف الأدق، التهدئة السائدة، طالما أنّ كافة القوى السياسية في لبنان قد أقرّت ضمناً بالطريق المسدود التي أوصلت البلاد إليه، وخلصت بالتالي، إلى محاولة إقفال الثقوب في سفينة الوطن الغارقة بفعل السياسات الاقتصادية الكارثية التي اتسمت معالجتها طوال السنوات الماضية بحالة من الإنكار.
هكذا جاءت «معجزة» صندوق النقد الدولي لتوحّد الجميع – ظاهرياً، إلى أن يثبت العكس – حول سبل الإنقاذ، لكأنّ في ذلك إقراراً ضمنياً، بأنّ لبنان لا يُحكَم إلاّ بوصاية، سياسية كانت أم اقتصادية، من شأنها أن تبدّد الاحتقان، الذي بلغ في مساره التصاعدي خلال الأشهر الماضية نقطة الذروة، التي بدا معها أنّ الصيغة التوافقية التي حكمت لبنان منذ عهد الاستقلال، مروراً بمرحلة ما بعد الطائف، قد انتهت، وأنّ لبنان الغد لن يكون لبنان الذي عرفناه حتى الأمس القريب.
أياً تكن المواقف الصريحة والمبيتة من الخطة الاقتصادية، ثمة ما يشي بأنّ القطار قد انطلق، فإذا كان وصف «باروميتر» السياسة اللبنانية لا يزال يصحّ على وليد جنبلاط، لأمكن القول، إنّ موازين القوى الداخلية، وإلى حدّ ما الخارجية، تشي بأنّ ثمة نيّة للإنقاذ، حتى وإن اطلق البعض النار الكلامية على التوجّهات العامة لحكومة حسان دياب، وإن كان من المسلّم به أنّ النية وحدها لا تكفي، طالما أنّ شيطان التفاصيل يحكم مفاصل الحياة السياسية في لبنان، والسياسات الإقليمية والدولية تجاهه.
على هذا الأساس، فإنّ «نيّة الإنقاذ» تبقى العبرة في ما ستحققه، فإمّا أن تؤدي إلى الخروج من المأزق الحالي، اقتصادياً وسياسياً، وعندها يكون لبنان قد نجا بالفعل من مصيره الأسود، وإما أن تكون مجرّد شعار طنّان يخفي وراء اكمته أجندات كارثية، كتلك التي أُمكن قراءتها بشكل واضح في التصريحات الأخيرة لديفيد شينكر.
وبانتظار أن تنجلي الصورة أكثر فأكثر، في ضوء ما سيخرج من مواقف بعد لقاء بعبدا، وفي ضوء القرارات التنفيذية للخطة الاقتصادية المُقَرة، بما في ذلك شكل العلاقة مع صندوق النقد الدولي، يمكن القول إنّ العجلة يمكن ان تسير مجدداً، وإن في حقل الغام خريطته بالغة التعقيد.
من هنا، فإنّ المواقف المرتقبة بعد لقاء بعبدا ستكشف بالفعل مدى نجاح حكومة حسان دياب في توفير غطاء سياسي داخلي لخطتها الإقتصاديّة -المالية، خصوصاً أنّ الكثير من بنودها يتطلب قوانين في مجلس النواب، وهو ما لن يكون ممكناً دون توافق سياسي، وهذا الأمر حيوي بالنسبة إلى الخطة نفسها، خصوصاً أنّ قيمتها تتمثل في كون نجاحها يتطلب التعامل معها كسلة متكاملة، ما يعني أنّ الفشل في تمرير تلك القوانين يعني المخاطرة بالخطة الطموحة برمّتها.
انطلاقاً من المواقف التي أُمكن رصدها عشية لقاء بعبدا، يمكن توقّع نجاحاً مؤقتاً للحكومة في تأمين الحاضنة الداخلية، التي من شأنها أن تساعد في تأمين الغطاء الدولي، للمضي قدماً في برنامج الاصلاح الاقتصادي.
وتبعاً لذلك، تبدو خريطة المواقف السياسية المتصلة بالخطة الاقتصادية لصالح حكومة حسان دياب، وإن كان الكل حذراً تجاهها، ما يجعل السير في حقل الألغام الداخلية والخارجية محكوماً بتوازن دقيق، إن اختل فالكارثة الكبرى آتية لا محال.
هذا التوازن يتمثل في ضمان الدعم الداخلي من طرفين أساسيين، أولهما «حزب الله»، الذي ابدى امينه العام السيد حسن نصرالله عن رفضه لتسليم رقبة البلد إلى صندوق النقد الدولي، وهو موقف طبيعي، آخذاً في الحسبان، أنّ التجارب السابقة مع هذه المؤسسة المالية الدولية في مختلف دول العالم لا تبشر بالخير حين يتعلّق الأمر بمصير الطبقة الوسطى والطبقة الفقيرة. أما ثانيهما، فهو «الحزب التقدمي الاشتراكي»، الذي من شأن تموضعه الجديد أن يُسقط الرهانات التي تعمّمت خلال الفترة الماضية، على امكانية جبهة سياسية معارضة (بنفس انقلابي)، تضمّه و»تيار المستقبل» و»القوات اللبنانية».
لكن السؤال المحوري، يكمن في تحديد الدور المقبل للثنائي «المستقبل»- «القوات»، خصوصاً انّ مقاطعة الأول للقاء بعبدا، وبالتالي اتخاذ موقف سلبي مسبق من الخطة الاقتصادية، يطرحان أكثر من علامة استفهام على الخطوات المتقدمة التي يمكن لسعد الحريري أن يُقدم عليها، في حال وجد نفسه في عزلة داخلية في ظل الخريطة السياسية المتحولة.
ومع ذلك، ثمة امكانية لتوقّع تسوية ما مفروضة خارجياً على المعارضين للذهاب في مشروع الإنقاذ الاقتصادي، بصرف النظر عن الأجندات المحيطة به، خصوصاً أنّ أحداً حتى اليوم لم يبدِ صراحة رفضه لصندوق النقد الدولي.
لكن، كل ما سبق ليس سوى رأس جبل الجليد اللبناني. فما خفي من هذا الجبل يدفع إلى التشكيك في الخطة الاقتصادية، برغم البنود الواعدة المدرجة فيها، خصوصاً أنّ الاحتقان الشعبي نتيجة لارتفاع سعر الدولار، ومعه جنون الاسعار، في بلد اعتاد على الاستهلاك الرفاهي، فبات شعبه عاجزاً اكثر فأكثر عن تأمين أدنى مقومات العيش، يترك الباب مشرّعاً أمام موجات غضب تتجاوز «بروفة» طرابلس الأخيرة، ما يضع كل التسويات السياسية تحت مقصلة الشارع المنتفض.
ثمة سبب آخر يستدعي التشكيك، وهو أنّ تركيبة السلطة الحاكمة في لبنان لا يمكن أن تسمح بإصلاح جذري، في حال كان ثمن هذا الإصلاح هو التخلّي عن مكتسبات تحققت بإثراء غير مشروع بات الكل منخرطاً فيه، وبالتالي فإنّ أقصى ما يمكن ان توفره هو تضييق الهوة بين فرصة الانقاذ ونمط الفساد المعروف، وهو أمر قد لا يكون كافياً في ظل ما آلت إليه الحال في لبنان بعد تراكمات السنوات الثلاثين الماضية.
كل ما سبق، يجعل من الصعب القول إنّ الخريطة الداخلية ستستقر على خلفية ثابتة. فالمواقف المعلنة من هذه القضية أو تلك، تبقى عرضة لتغييرات دراماتيكية، والتجاذبات السياسية، التي يسعى الخيّرون إلى وضعها في ثلاجة الأزمة القائمة، قد تذهب إلى تسخين هائل، من المؤكّد أنّ كثيرين في لبنان وخارجه يرونه الحل الأمثل لتأمين مصالحهم الضيّقة، حتى وإن طال الانهيار الجميع!