في العادة أتجنب التنظير في الأمور السياسية خصوصاً في لبنان. إلا أننا وصلنا اليوم إلى نقطة أصبح فيها الوضع السياسي الداخلي والإقليمي من أهم العوامل المؤثرة في التوجهات الاقتصادية والمالية للبنان في المدى القريب والمتوسط والبعيد.
لم يحصل في تاريخنا الحديث أن يكون تموضع لبنان تجاه الغرب والدولة العربية الداعمة تاريخياً له ولا سيما دول الخليج العربي كما هو اليوم، ولطالما كانت دول الخليج العربي تمد لبنان واللبنانيين بجميع فئاتهم بالدعم المادي عندما تدعو الحاجة. كما أنها وفرَت فرص عمل لمئات آلاف اللبنانيين من رجال أعمال ومستشارين ومصرفيين ورجال إعلام وإعلان، وتقنيين… ومن مختلف الفئات الاجتماعية والطائفية.
أما تنَوعنا الثقافي وتميزنا في العالم فهو مرتبط بعلاقتنا الوثيقة مع الدول الغربية وليست الإرساليات الأوروبية والأميركية سوى المثال الأوضح لذلك، فهذا التميُّز كان دافعاً أساسياً لنجاحنا في عالم الأعمال في لبنان والخارج.
إذ كيف لبلد وشعب مرتبط ارتباطاً عضوياً بالغرب والخليج العربي أن ينجر إلى ما انجرّ إليه بلدنا؟ ألا يستوجب اعتماد أي سياسة خارجية تأمين توافق عام وطني حولها؟
إن معالجة هذا الوضع الشاذ يشكل شرطاً أساسياً لنجاح أي خطة اقتصادية ومالية تهدف لمعالجة الوضع القائم. أما العناصر الأساسية لهكذا خطة فتتلخص بالآتي:
1. وضع إطار عادل لتوزيع الخسائر المالية يشمل الدولة اللبنانية ومصرف لبنان والمصارف اللبنانية وفئة محدودة من كبار المودعين.
ولا يمكن في هذا المجال إلا أن تتحمّل الدولة اللبنانية جزءاً من المسؤولية، فالحكومات المتعاقبة هي التي استدانت وهي التي صرفت الأموال.
2. تأسيس صندوق سيادي بإدارة فعالة ومستقلة مع تبني مطلق لقواعد الحوكمة والشفافية لكي يقوم بتملك أجزاء من أصول الدولة التي تدار بطريقة غير فعالة بهدف خلق قيمة مضافة لهذه الأصول وزيادة إنتاجيتها، وتساهم الدولة عبر المردود المستقبلي لهذا الصندوق في تحمل الجزء العائد لها من الخسائر الواقعة.
3. وضع خطة اقتصادية جدية للبنان بهدف خلق نموذج اقتصادي جديد مبني على تفعيل قطاعات الإنتاج بهدف تخفيف العجز التجاري والحد من الاعتماد المطلق على تدفق الدولارات إلى البلد؛ يمكن أن تشكل رؤية لبنان الاقتصادية أو ما تُعرف بـ«خطة ماكنزي» منطلقاً في هذا المجال.
4. بناءً على وضوح التوجه في مسألة توزيع الخسائر كما في الخطة الاقتصادية المرتقبة يجب وضع تصور واضح وعملي لإعادة هيكلة ورسملة القطاع المصرفي. وفي هذا المجال يجب تعزيز القيمة التفاضلية للقطاع المصرفي اللبناني لا سيما السرية المصرفية واحترام أحكام قانون النقد والتسليف.
5. الشروع فوراً بوضع الأطر القانونية والتنفيذية للإصلاحات السياسية، والإدارية والاقتصادية المرتقبة على أن تشمل:
• حلاً دائماً وفعالاً لقطاع الكهرباء.
• محاربة التهرب الجمركي بدءاً من إعادة النظر بكل الإجراءات القائمة واعتماد المكننة والاستعانة بالخبرات الدولية في هذا المجال.
• وضع نظام ضرائبي جديد يأخذ بعين الاعتبار مجمل الدخل، والعدالة الاجتماعية وتحفيز بيئة الأعمال وتنمية قطاعات الإنتاج.
• تطوير البنى التحتية لا سيما التكنولوجية منها.
• تفعيل الموانئ والمناطق الحرة.
• إعادة النظر بكل القوانين البائدة والتي تقيّد بيئة الأعمال: قانون التجارة، قانون المحاكمات الجزائية، القوانين المالية ذات الصلة…
• إنشاء الهيئات الناظمة لا سيما في قطاعات الاتصالات والكهرباء والنقل البحري والجوي على أن تُعطى كل الصلاحيات اللازمة وأن تتمتع باستقلالية العمل.
أما الإصلاح الأبرز فهو الإصلاح السياسي عبر إعلان «حياد» لبنان الإيجابي والفاعل واعتماد اللامركزية الإدارية التي نص عليها اتفاق الطائف من أجل تطوير وتفعيل أنظمة وأدوات الحكم.
وفي هذا الإطار ألف تحيّة لبكركي وسيّدها، وليس عن عبث أن أعطي مجد لبنان لها وله!
أخيراً وليس آخراً، أشهد أنني حاولت، وعبر كل المواقع التي استطعت الوصول إليها أن أدفع باتجاه تبني هذه الأفكار وهذه التوجهات!
* مصرفي وخبير اقتصادي