Site icon IMLebanon

ما يُحيِّر الصندوق: أيهما تغيّر الخطة أم الطبقة الحاكمة؟

 

يحلّ أوان درس الخطة الاصلاحية الاقتصادية لحكومة الرئيس حسان دياب، واتخاذ موقف منها، في مرحلة تالية لتسلّم صندوق النقد الدولي رسالة طلب التعاون معه. اولى محطات التفاوض بين الطرفين تبدأ مع وصول بعثة الصندوق الى بيروت، ومناقشة المسؤولين اللبنانيين في سبل تطبيقها، والشروط التي يقتضيها ادماجها فيها تبعاً للمعايير الدولية التي تتخذها الوكالة الدولية، لمساعدة دولة ما على انقاذ اقتصادها من القعر.

 

لم يفصل بين اقرار الخطة الاصلاحية في مجلس الوزراء (30 نيسان) وتوقيع الرسالة (الاول من ايار) سوى ساعات، كانت كافية للربط بينهما، والتأكيد ان من المتعذر على لبنان استعادة نهوضه الاقتصادي واستقرار نظامه المالي والنقدي بلا مساعدة من الصندوق. لم يكن من الممكن افتراض الفصل بينهما، كما لم يقترن توجيه الرسالة بأي ردود فعل سلبية. يتزامن هذا الربط مع الاجتماع الذي دعا رئيس الجمهورية ميشال عون الكتل النيابية اليه في قصر بعبدا، غداً الاربعاء، لمناقشة الخطة.

الواضح ان المراد من الاجتماع منح الحكومة اللبنانية، عبر الكتل الرئيسية في البرلمان المانحة للثقة، مزيداً من الدعم حيال صندوق النقد قبل وصول بعثته الى بيروت، وتمكين المفاوض اللبناني من القدرة على مناقشة ستكون صعبة بالفعل. لكن الواضح ايضاً ان تيار المستقبل اختار ان يكون الكتلة الرئيسية الوحيدة التي تستثني نفسها من الدخول في الخطة الاصلاحية لسبب وحيد – اياً تكن ذرائعها المعلنة – هو ان رئيسها ليس في السرايا، ولا هو واضعها، ولن يجلس الى جانب رئيس الجمهورية، وليس في احسن الاحوال المفاوض الرئيسي للصندوق.

هذه المرة حرم الرئيس سعد الحريري نفسه من دور اعتاد عليه والده الرئيس رفيق الحريري، عندما اضطلع باستمرار بدور عرّاب مؤتمرات تعويم اقتصاد لبنان، كمؤتمر اصدقاء لبنان في واشنطن ومؤتمرات باريس 1 و2 و3. لم يأتِ مؤتمر سيدر (2018)، بعد خمسة اشهر من احتجاز الحريري الابن في الرياض (تشرين الثاني 2017) ثم عودته عن استقالته المعروفة وقتذاك، سوى تعويض سياسي عن اذى الحقه الاحتجاز بسمعته السياسية. مع ذلك ترأس حكومتين قبل مؤتمر سيدر وبعده، من غير ان يحقق بنداً واحداً فيه مع شركائه في التسوية الرئاسية الذين اضحوا اليوم اعداءه.

مع ان لا موعد بعد لوصول بعثة صندوق النقد الى بيروت، بيد ان الاسئلة الاولى التي ستحملها، ومن المفترض ان يكون المسؤولون اللبنانيون تحضّروا لها، تتركز اولاً عن الجديد الذي تتضمّنه الخطة ولم يرد في مؤتمر سيدر، وثانياً عن الضمانات التي تجعل الصندوق – العديم الثقة بالدولة اللبنانية ورؤوسها والقليل الايمان برصانتهم وصدقيتهم – يقتنع هذه المرة بأن هذا النظام السياسي جاد في انقاذ اقتصاده وعملته الوطنية التي تقترب من ان تصبح صفراً.

بحسب بعض المطلعين، يملك صندوق النقد الكثير من الحجج التي تجعله يشكك في تطبيق خطة لم تبصر النور الا بعد انهيار كامل تقريباً، وبعد سنتين تماماً من مؤتمر سيدر الذي حمل كمّاً كبيراً من الحلول لمشكلات الاقتصاد اللبناني كان في امكان تنفيذ جزء اساسي منها تجنيب البلاد سقوطها.

على مر العقود المنصرمة، منذ بدء مرحلة تثبيت سعر صرف العملة الوطنية عام 1993، في الاشهر التالية لتأليف الحكومة الاولى للحريري الاب، اسدى صندوق النقد والبنك الدولي عشرات النصائح، وعدد وافر منها مُدوّن في التقارير السنوية للصندوق التي يعدها عن بلد عضو فيه هو لبنان، عن ضرورة تحرير سعر صرف الليرة اللبنانية، اياً تكن تداعياته قاسية ومؤلمة في المرحلة الاولى. الحجة الملازمة ان هذا السعر يستقر تدريجاً مع مرور الوقت، مقدار نجاح لبنان في اجتياز صعوباته المالية والاقتصادية الى مرحلة الازدهار والانتعاش. في الخمسينات كان الدولار الاميركي يساوي خمس ليرات لبنانية. في الستينات تدنى الى 4 ليرات، ما عنى تحسن الليرة مع النهوض الذي رافق الحقبة الشهابية. في النصف الاول من السبعينات وصل الى ثلاث ليرات. ساهم في صعود الاقتصاد اللبناني حينذاك انكماش اقتصاد الدول العربية المجاورة واعتماد معظمها انظمة اشتراكية منغلقة مقيّدة، ما جعل لبنان اوسع ساحة للاستثمار وايداع الاموال فيه وصعود نظامه المصرفي. البعض يتذكر حماية عهد الرئيس الياس سركيس الليرة اللبنانية، وكان الدولار الاميركي يساوي ما يقارب ليرتين ونصف ليرة ليس الا. على مر العقود الاخيرة منذ عام 1993 بلا انقطاع، نبّه صندوق النقد الى هذا الجانب، والى ما يشكو منه قطاع الكهرباء الآخذ في التفاقم مع استمرار دعمه بلا اصلاحه، اضف النسبة العالية للفوائد غير المألوفة في تاريخها.

 

منذ عام 1993 لم يُصغَ الى نصائح صندوق النقد والبنك الدولي

 

 

بعد انتقاله من سفارة لبنان في واشنطن وعودته مجدداً الى العمل في البنك الدولي، وكان اضحى في كانون الثاني 1992 مستشاراً رئيسياً لنائب رئيس البنك الاقليمي المسؤول عن الشرق الاوسط وشمال افريقيا (الدول العربية وايران) كايو كوخ فايزر، يروي السفير عبدالله بوحبيب ان الرجل قرر في نيسان 1995 زيارة لبنان. عشية اجتماعه بالحريري الاب، ابلغ الى مستشاره انه سيحذره من الاستمرار في اعتماد الفائدة العالية غير المسبوقة (45%)، وخطرها على لبنان، وسينصحه بوقفها قبل ان تخرب البلاد. ثم اضاف انه سيسجل هذا الموقف الضروري الافصاح عنه لتدوينه رسمياً، وسيدلي به بعد المقابلة الى رجال الصحافة للتأكيد عليه. جواب مستشاره ان لبنان مقبل وقتذاك على استحقاق رئاسي مضطرب ما بين انتخاب رئيس جديد للجمهورية او تمديد ولاية الرئيس الحالي الياس هراوي. من شأن موقف كهذا التسبب في مزيد من ازمات في غنى عنها، ويجعل الزائر الدولي غير مرغوب فيه في لبنان ما دام هراوي والحريري في الحكم. اقترح عليه الاكتفاء بما سيدلي به امام الحريري، ثم يوجه اليه بعد رجوعه الى واشنطن رسالة تعيد تأكيد التحذير.

ذلك ما فعل نائب رئيس البنك الدولي بتوجيه رسالة لا تزال مرمية في ادراج رئاسة مجلس الوزراء، من غير ان يتذكرها احد او يعود اليها.

بعد انتخابه رئيساً للجمهورية، وقبل ادائه اليمين الدستورية، اطلع الرئيس اميل لحود من الحريري في اجتماع خاص في الحمام العسكري على لائحة بارقام الوضع المالي للبلاد، فافاده ان الديون 18 مليار دولار. في وقت لاحق تحقق لحود ففاجأه ان الرقم الحقيقي هو 22 ملياراً، بعدما تلاعب رئيس الحكومة المستقيلة بارقام الديون التي زوده اياها في وثائق، واخفى عنه ديون المستشفيات الخاصة والمتعهدين قاربت الفارق بين الرقمين. على اثر أُخطِر بمضمون رسالة نائب البنك الدولي، فطلب نسخة منها وصلته من واشنطن.

لم يُصغَ حينذاك الى نصيحة البنك الدولي، كما الى نصائح تقارير صندوق النقد الذي قد يسأل مفاوضيه – في ظل الطبقة السياسية نفسها مذذاك وقد شدّت الخناق على النظام حتى الاختناق – مَن يكفل جدية السلطات اللبنانية في استجابة ما احجمت عنه على مر عقود، لئلا تتحول الى مفاوض فاشل وخاسر؟

بالتأكيد لا احد يضمن.