الحكم مسؤولية والنتائج لا ترتبط فقط بالأرقام، وإنما بحسن اتخاذ القرارات في المحتوى والتوقيت. لا تكمن المشكلة عموما في اختيار السياسات الاقتصادية الصحيحة، انما ربما وأهم منها في اختيار التوقيت المناسب كي تكون فعاليتها كبيرة. سياسات صحيحة في توقيت خاطئ تعطي نتائج سلبية ربما عكس ما يشتهيه واضعوها. المبادئ السياسية الاقتصادية مهمة لكنها غير كافية اذا سوقت عبر رسائل غامضة لا تحترم مشاعر المواطن. فالمواطنون لا يقيمون فقط صحة السياسات المتبعة، وانما أيضا الخط الاقتصادي الاجتماعي العام الذي تسير عليه الحكومة. المواطن يكره أو يرفض اجمالا تغيير السياسات 180 درجة اذ يعطي ذلك انطباعا أن الفريق الحاكم غير جدي وغير كفؤ حتى لو كان التغيير مبررا عقائديا.
تغيير السياسات رأساً على عقب يسبب عموما في الدول الديموقراطية رحيل الفريق الحاكم وترك المجال لفريق آخر للحكم تماما كما حصل في بريطانيا والهند والبرازيل وغيرها.
من الأمثلة الكبيرة لأهمية التوقيت في تنفيذ السياسات الاقتصادية هي تجربة «ليز تراس» الحكومية في بريطانيا منذ سنتين تقريبا والتي لم تدم أكثر من 45 يوما. كيف كانت أوضاع بريطانيا في تلك الفترة؟ كان التضخم مرتفعا عالميا وليس فقط في بريطانيا. كان النمو بطيئا ليس فقط في بريطانيا وانما أيضا في العالم أجمع. أما القاعدة الانتخابية كما القاعدة السكانية البريطانية فكانت قلقة على أوضاعها العامة قبل بداية فصل الشتاء بسبب عدم توافر كميات المحروقات وبسبب الأسعار المرتفعة. عانى الاقتصاد البريطاني عموما من خطأ الخروج من الوحدة الأوروبية أي البريكسيت. كانت الانتاجية العامة متدنية لأسباب اجتماعية قانونية بالاضافة الى شح في الاستثمار من قبل الشركات الكبيرة التي لم تمول البحث والتطوير بشكل كاف ومتواصل.تم تنبيه رئيسة الوزراء الى أخطاء سياساتها في النوعية وخاصة التوقيت كما طلب صندوق النقد مباشرة منها التراجع عن برنامجها في ظروف غير مناسبة، فرفضت.
كيف واجهت رئيسة الوزراء وحكومتها هذه الأوضاع الصعبة؟ قررت تخفيض الضرائب على دخل الأغنياء لدفعهم الى الاستثمار في الداخل. وضعت برنامجا للانفاق سخي دون تحديد مصادر التمويل بشكل واضح ومنطقي كما قررت تحرير الاقتصاد من العديد من الاجراءات والقيود. قررت عدم رفع النسبة الضريبية على أرباح الشركات الكبيرة من 19% الى 25% والمقررة سابقا لتمويل الانفاق الاجتماعي ومحاربة الفقر وذلك للحفاظ على دعمها السياسي. ماذا كانت النتيجة؟ انحدار الايرادات العامة وارتفاع الدين العام وبالتالي الرجوع ماليا الى الوراء في ظروف غير مناسبة. باختصار كان برنامجها غير واضح للعديد من المقترعين وممثلي الشعب، ولم تسمع هي الرفض السياسي والشعبي لهذا البرنامج كما رفضت التراجع الا في أمور قليلة، غصبا عنها، مما سبب التباعد مع الشعب.
سقطت حكومة ليز تراس بعد 45 يوما وهذا ما لم يحصل سابقا. رفضت الأسواق المالية برنامجها أي تخفيض الضرائب على الأغنياء وعدم رفعها على الشركات الكبيرة. سبب ذلك ارتفاعا في الفوائد وسقوطا لليرة مما فرض تراجعا مهينا عن بعض جوانب السياسات. لم يكن برنامج ليز تراس اختراعا جديدا بل طبقت ما قرره سابقا الرئيس ريغان في الولايات المتحدة ورئيسة الوزراء تاتشر في بريطانيا وكانت النتائج ايجابية. برنامج واحد يعطي نتائج معاكسة في ظروف مختلفة. لماذا؟
رفض البريطانيون برنامج الحكومة خوفا من أن تصبح بريطانيا كبعض الاقتصادات الناشئة أي اقتصادات تمول الانفاق العام ليس من الايرادات وانما من الاصدارات النقدية من قبل المصرف المركزي. سبب هذا الشعور العام ضغطا قويا على الأسواق النقدية مما فرض على المصرف المركزي رفع الفوائد لدعم الليرة. في نفس الوقت ارتفعت تكلفة الاقتراض وبالتالي تراجع الاقتصاد. جعلت هذه الوقائع البرنامج الاقتصادي مستحيل التطبيق في ظروف سياسية معاكسة. رفض الشعب برنامج رئيسة الحكومة وبالتالي كان الفشل حتميا والاستقالة مؤكدة. لم يعد يفيد تغيير السياسات عندما يفقد السياسي ثقة الشعب التي لا تعط مرتين فكان الفشل مؤكدا. هل كان مصدر سقوط الثقة مالي؟ تشير الأرقام الى أن تكلفة برنامج الحكومة لم تكن لتتعدى ال 1% من الناتج. اذا ما السبب؟ سؤ تقدير لعمق الاعتراض الشعبي تجاه تخفيض الضرائب على الأغنياء وعدم مراعاة حاجات الفقراء. لم تكن الأرقام سبب سقوط حكومة تراس بل تراكم الأخطاء السياسية وسؤ التخاطب مع الشعب في أوقات دقيقة.
أعطت سياسات الحكومة انطباعا للمواطنين بأن الفريق الحاكم بدأ من رئيسة الوزراء غير كفؤ وبعيد عن الواقع وعما يعانيه المواطن. كان المحتوى غير مناسب وكان التوقيت خاطئا. كانت النتيجة السقوط. أما تخفيض الضرائب على الأغنياء فأعطى انطباعا أن ما يهم الحكومة هو تأييد الأغنياء لها بالرغم من أنهم لا يعانون كالفقراء. أعطى ذلك انطباعا بأن الفقراء غير مهمين بالرغم من أنهم القاعدة الشعبية الأوسع التي تعاني. لا شك أن رفع الفوائد على الجميع لحماية النقد أثر سلبا على الاستثمارات وعلى تكلفة المعيشة وبالتالي أضر بالاقتصاد. معارضة سياسات تراس لم تكن مالية اقتصادية، انما أهم من ذلك بكثير أي عائدة للثقة ولسؤ التقدير كما لعدم فهمها لأولويات الشعب النفسية قبل المعيشية.
فسرت مسيرتها القصيرة بأنها لم تحترم مطالب الشعب الذي يعاني مما سبب سقوطها. الدرس الذي أعطي يجب أن يكون مهما لكل الحكومات في كل الدول، أي واجب تقدير وفهم وتنفيذ ما يريده الرأي العام في كل الظروف وان وجب التغيير السريع. يجب أن يكون ذلك بالتفاهم مع الشعب وتقديرا لمشاعره. لم يكن ذلك متاحا بعد ان فقدت الحكومة ثقة المواطن. تعود اليوم ليز تراس الى الواجهة نيابيا وربما لاحقا حكوميا اذا سامحها البريطانيون.