شكّل رفض المواطنين للسلّة الضريبية التي أقرّها مجلس النواب أخيرا وتلك التي ترافق سلسلة الرتب والرواتب، ضغطًا على الطبقة السياسية، خصوصا على الحكومة اللبنانية التي تجدّ نفسها مُلزمة تأجيل البت بملف الموازنة عملًا بمبدأ فرضته تظاهرة الأحد الماضي «لا ضرائب من دون إصلاحات».
ينصّ المنطق السياسي على ألا تعمد الأحزاب السياسية إلى فرض ضرائب في الفترة التي تسبق إنتخابات نيابية أو بلدية، ويعود السبب إلى الخوف من أن يعمد الشعب إلى مُعاقبة هذه الأحزاب. لذا نرى أن مُعظم الإصلاحات الإقتصادية، الإدارية والمالية في الدول الغربية تحدث في الفترة التي تلي الإنتخابات.
لم يشهد لبنان إصلاحات إقتصادية فعلية منذ عهد الرئيس فؤاد شهاب. هذا الأمر يُعقدّ مسيرة تطبيق أي إصلاحات حاليًا نظرًا إلى المنحى التفسيري الذي قد تأخذه أية إصلاحات خصوصًا «مُكتسبات الطوائف». ويأتي عامل غياب الثقة بين المُكونات اللبنانية ليزيد من صعوبة تطبيق هذا الأمر.
طرح مشروع سلسلة الرتب والرواتب، وبغض النظر عن أحقيته، يخفي في طياته تمرير سلّة ضريبية غير متوازنة هيكليًا وحجمًا. فالمعروف أن عجز الموازنة من دون سلسلة الرتب والرواتب ومن دون السلّة الضريبية التي تواكبها، يبلغ ٦ مليار دولار أميركي وذلك طبقًا لمشروع موازنة العام ٢٠١٧. وبالتالي هذا المبلغ، وفي غياب النمو الإقتصادي، سيتحوّل (أقلّه ٥ مليار دولار أميركي) إلى دين عام مما يزيد خدمة الدين العام ومعها العجز في العام ٢٠١٨.
من هذا المُنطلق، أتت إقتراحات القيمين على وزارة المال لتفادي مُشكلة الدخول في إنفجار خدمة الدين العام. الجدير بالذكر أن نصائح صندوق النقد الدولي تذهب أبعد من ذلك بكثير لكن وزير المال ومعه المدير العام لم يأخذوا بهذه النصائح لعلمهم أن ردّة فعل الشعب ستكون عنيفة.
هنا تكمن مُشكلة الضرائب التي، وبحسب توزيعها الهيكلي (مباشر، غير مباشر، إستهلاك، إستثمار…) ستضرب كل فئات المُجتمع اللبناني، خصوصا الطبقة المتوسطة والفقيرة.
والحسابات التي قمنا بها تُشير إلى أن إقرار الإجراءات الضريبية التي أقرّها مجلس النواب أخيرا (وليس كل السلّة الضريبية) سيرفع الفقر في لبنان من ٣١.٥٢٪ حاليًا إلى ٣٣.٩٣٪ (أي ١.٩٧ مليون شخص). هذا الأمر بالطبع يُشير إلى مدى ضيق رؤية الإجراءات الضريبية التي تهدف بالدرجة الأولى إلى لجم العجز.
تبلغ كلفة سلسلة الرتب والرواتب بحسب مشروع موازنة العام ٢٠١٧، حوالي ١٢٠٠ مليار ليرة لبنانية في حين أن السلّة الضريبية التي تمّ إقتراحها في المشروع تبلغ ٢٤٠٠ مليار ليرة لبنانية. وهذا يعني أن السلّة الضريبية كانت تهدف إلى لجمّ العجز الذي بدأ يأخذ مستويات تاريخية خطيرة خصوصا مع نمو إقتصادي خجول ومستوى فساد وهدر عاليين.
هذا الأمر تمّ البحث فيه في كواليس السياسة ومن هذا المُنطلق وافقت الكتل النيابية على الضرائب وهي تعلم ضمنًا أن ردة فعل الناس ستكون كبيرة. وما يُثبت هذا الأمر هو الإرتداد في المواقف لمُعظم الأحزاب صباح تظاهرة الأحد الماضي.
لماذا لا تتمّ مُصارحة الشعب اللبناني بهذا الأمر؟ لماذا مُحاولة تمرير الضرائب بهذه الطريقة؟ خصوصًا أن الرأي العام اللبناني مُستاء من مستوى الفساد الذي وصل اليه التعاطي في الشأن العام. من هذا المُنطلق هناك قاعدة جديدة فرضتها تظاهرة الأحد الماضي على حكومة «إستعادة الثقة».
هذه القاعدة تنصّ على أن «لا ضرائب من دون إصلاحات». وهنا يُطرح السؤال عن معنى هذه الإصلاحات حيث أنه بذهن الرأي العام اللبناني الإصلاح يعني محاربة الفساد. فهل هذا كافٍ؟
يُكبدّ الفساد الدولة اللبنانية خسائر مالية مباشرة وغير مباشرة بقيمة ١٠ مليار دولار سنويًا. هذا الواقع كفيل بالقول أن محاربة الفساد كافية لإعادة الأمور إلى نصابها. لكن محاربة الفساد وحده غير كافية لأنها لا تؤسّس لماكينة إقتصادية تستطيع الصمود والإستمرار لكي ترثها الأجيال المُستقبلية.
هناك نوعان من الإصلاحات يجب على الحكومة اللبنانية القيام بها:
أولًا – الإصلاحات القصيرة الآمد والتي تطال محاربة الفساد وعلى رأسها محاربة التهرّب الضريبي الذي يُشكلّ ٥ إلى ١٠٪ من الناتج المحلّي الإجمالي، التشدّد بالجباية والذي يؤمّن وحد مليارات من الدولارات من فواتير مُستحقة وليست مجبية، زيادة الشفافية في المناقصات العامّة والتي تهدر الكثير من الأموال خصوصًا أن هذه المنقاصات تطال بشق منها الإنفاق الإستثماري (الفيل الأبيض)، قطاع الكهرباء والذي يستنزف مالية الدولة مع ١٦ مليار دولار أميركي دعماً لمؤسسة كهرباء لبنان من العام ٢٠٠٨ وحتى يومنا هذا.
ثانيًا – إصلاحات على الأمد البعيد والتي تطال الخطط الإقتصادية للنهوض بالإقتصاد اللبناني خصوصا الخطط العشرية التي تسمح بالتأسيس لقطاعات واعدة كقطاع التكنولوجيا والنفط والزراعة والصناعة، وتحديد قيمة الإستثمارات الواجبة في هذه القطاعات والتي يتوجب تأمينها من خلال الشراكة بين القطاع العام والخاص.
فالفائض بالسيولة في المصارف اللبنانية سيذهب حكمًا إلى هذه الإستثمارات بحكم أن الفرص الموجودة حاليًا أمام المصارف في ما يخص القروض تتراجع مع الوقت وتنحصر بسندات الخزينة التي أصبحت تُشكّل جزءا كبيرا من محافظ هذه المصارف.
هذه الإصلاحات تسمحّ بالتخطيط ضمن إطار مسؤول لماكينة إقتصادية مستدامة تعتمد على عوامل إنتاجية عصرية. هذه الأخيرة تؤمّن للشباب اللبناني فرص عمل بحكم أن التقنية العالية التي يتمتّع بها هذا الشباب ستُمكّنه من المُساهمة في تطور الإقتصاد اللبناني والمضي قدما نحو الإنماء الإقتصادي والإجتماعي الذي لطالما حلم به اللبنانيون.
على هذا الصعيد تأتي قاعدة ثانية فُرضت على حكومة «إستعادة الثقة» وهي قاعدة «فصل الإقتصاد عن السياسة». فمظاهرة الأحد الماضي التي جمعت متظاهرين من كل الطوائف ومن عدّة أحزاب أرست قاعدة أن المُتضرّر الأول من الوضع الحالي هو المواطن اللبناني بغض النظر عن إنتمائه السياسي والمذهبي.
وبالتالي، هناك إلزامية للحكومة للعمل على النهوض الإقتصادي والإجتماعي في معزل عن الخلاف السياسي القائم على مواضيع تتخطّى حدود الوطن.
إن إقرار وتطبيق إصلاحات بحسب الخريطة المنصوص عليها أعلاه، ستسمح لحكومة الرئيس الحريري بتحقيق أول هدف لها وهو إستعادة المواطن للثقة بالدولة ومؤسساتها.
وسيؤمّن الطريق لمنهج جديد للتعاطي مع الشأن العام والمال العام، منهج غائب منذ الحرب الأهلية خلافًا للمنهجية الحالية والتي تنصّ على أن كل المصالحات السياسية تتمّ على حساب الخزينة العامّة.